4050 [ ص: 250 ] باب: جعل المرأة "ذات المحرم منه" خلفه

وقال النووي: (باب جواز إرداف المرأة الأجنبية؛ إذا أعيت في الطريق) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \النووي، ص164-166 ج14، المطبعة المصرية

[عن أسماء بنت أبي بكر؛ قالت: تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال، ولا مملوك، ولا شيء: غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن. ولم أكن أحسن أخبز. وكان يخبز لي جارات من الأنصار. وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى، من أرض الزبير، التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رأسي. وهي على ثلثي فرسخ. قالت فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه نفر من أصحابه. فدعاني، ثم قال: "إخ إخ" ليحملني خلفه. قالت: فاستحييت، وعرفت غيرتك. فقال: والله! لحملك النوى على رأسك؛ أشد من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر، بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس. فكأنما أعتقتني ].

4050 [ ص: 250 ] بَابُ: جَعْلِ الْمَرْأَةِ "ذَاتِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ" خَلْفَهُ

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: (بَابُ جَوَازِ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ إِذَا أَعْيَتْ فِي الطَّرِيقِ) .

(حَدِيثُ الْبَابِ)

وَهُوَ بِصَحِيحِ مُسْلِمٍ \النَّوَوِيِّ، ص164-166 ج14، الْمَطْبَعَةُ الْمِصْرِيَّةُ

[عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ؛ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ، وَلَا شَيْءٍ: غَيْرَ فَرَسِهِ. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مُؤْنَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ، وَأَخْرُزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ. وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ. وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ. قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى، مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ، الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رَأْسِي. وَهِيَ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ. قَالَتْ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: "إِخْ إِخْ" لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ. قَالَتْ: فَاسْتَحْيَيْتُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ! لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ؛ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ، بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ، فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ. فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَتْنِي ].

التالي السابق

الشرح

(الشَّرْحُ)

(عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ (قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا [ ص: 251 ] لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ، وَلَا شَيْءٍ: غَيْرَ فَرَسِهِ. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مُؤْنَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ. وَأَسْتَقِي الْمَاءَ، وَأَخْرُزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ) .

"الْغَرْبُ" بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ. وَهُوَ: الدَّلْوُ الْكَبِيرُ. وَهَذَا كُلُّهُ: مِنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُرُوءَاتِ، الَّتِي أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَيْهَا. وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْدُمُ زَوْجَهَا: بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا؛ مِنَ الْخَبْزِ، وَالطَّبْخِ، وَغَسْلِ الثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكُلُّهُ تَبَرُّعٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِحْسَانٌ مِنْهَا إِلَى زَوْجِهَا، وَحُسْنُ مُعَاشَرَةٍ، وَفِعْلُ مَعْرُوفٍ مَعَهُ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ لَوِ امْتَنَعَتْ مِنْ جَمِيعِ هَذَا، لَمْ تَأْثَمْ. وَيَلْزَمُهُ هُوَ: تَحْصِيلُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهَا. وَلَا يَحِلُّ لَهُ: إِلْزَامُهَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَإِنَّمَا تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ تَبَرُّعًا. وَهِيَ عَادَةٌ جَمِيلَةٌ، اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا النِّسَاءُ، مِنَ الزَّمَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ. وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْئَانِ؛ تَمْكِينُهَا زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا، وَمُلَازَمَةُ بَيْتِهِ. هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ، "رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى". وَلَنَا جَوَابٌ عَلَى سُؤَالٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فِي كِتَابِنَا "دَلِيلِ الطَّالِبِ، عَلَى أَرْجَحِ الْمَطَالِبِ". وَفِيهِ تَفْصِيلُ هَذَا الْإِجْمَالِ، وَكَلَامٌ مَبْسُوطٌ يَشْفِي الْعَلِيلَ، وَيَرْوِي الْغَلِيلَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ. فَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ.

[ ص: 252 ] وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ. قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى، مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ) . أَشَارَ عِيَاضٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهَا تَلْتَقِطُ مِنَ النَّوَى السَّاقِطِ فِيهَا، مِمَّا أَكَلَهُ النَّاسُ وَأَلْقَوْهُ. قَالَ: وَفِيهِ: جَوَازُ الْتِقَاطِ الْمَطْرُوحَاتِ، رَغْبَةً عَنْهَا؛ كَالنَّوَى، وَالسَّنَابِلِ، وَخِرَقِ الْمَزَابِلِ وَسِقَاطَتِهَا، وَمَا يَطْرَحُهُ النَّاسُ مِنْ رَدِيءِ الْمَتَاعِ، وَرَدِيءِ الْخُضَرِ، وَغَيْرِهَا؛ مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ رَغْبَةً عَنْهُ. فَكُلُّ هَذَا: يَحِلُّ الْتِقَاطُهُ، وَيَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ. قَالَ: وَقَدْ لَقَطَهُ الصَّالِحُونَ، وَأَهْلُ الْوَرَعِ. وَرَأَوْهُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ، وَارْتَضَوْهُ لِأَكْلِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ.

(الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَآلِهِ (وَسَلَّمَ: عَلَى رَأْسِي وَهِيَ عَلَى ثُلْثَيْ فَرْسَخٍ) . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ: "أَقْطَعَهُ"، أَعْطَاهُ قَطِيعَةً. وَهِيَ قِطْعَةُ أَرْضٍ، سُمِّيَتْ: "قَطِيعَةً"؛ لِأَنَّهَا اقْتَطَعَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ. "وَالْفَرْسَخُ": ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ. "وَالْمَيْلُ": سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ. "وَالذِّرَاعُ) : أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ إِصْبَعًا، مُعْتَرِضَةً مُعْتَدِلَةً. "وَالْإِصْبَعُ": سِتُّ شُعَيْرَاتٍ، مُعْتَرِضَاتٍ مُعْتَدِلَاتٍ.

وَفِيهِ: دَلِيلٌ لِجَوَازِ إِقْطَاعِ الْإِمَامِ. فَأَمَّا الْأَرْضُ الْمَمْلُوكَةُ لِبَيْتِ [ ص: 253 ] الْمَالِ؛ فَلَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ: إِلَّا بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ. ثُمَّ تَارَةً: يُقْطِعُ رَقَبَتَهَا وَيُمَلِّكُهَا لِإِنْسَانٍ يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً، فَيَجُوزُ. وَيَمْلِكُهَا، كَمَا يَمْلِكُ مَا يُعْطِيهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا: إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً. وَتَارَةً: يُقْطِعُهُ، فَيَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا: مُدَّةَ الْإِقْطَاعِ.

وَأَمَّا الْمَوَاتُ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ. وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذَنْ إِمَامٍ. هَذَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُمْلَكُ الْمَوَاتُ بِالْإِحْيَاءِ؛ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ.

(قَالَتْ: فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي. فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَآلِهِ (وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: "إِخْ إِخْ"، لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ. قَالَتْ: فَاسْتَحْيَيْتُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ) . لَفْظَةُ: "إِخْ إِخْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. وَهِيَ: كَلِمَةٌ، تُقَالُ لِلْبَعِيرِ لِيَبْرِكَ.

(فَقَالَ: وَاللَّهِ! لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ) ، أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ) . أَيْ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: جَوَازُ الْإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ، إِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً. وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، فِي الصَّحِيحِ.

وَفِيهِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَرَحْمَتِهِمْ، وَمُوَاسَاتِهِمْ فِيمَا أَمْكَنَهُ.

[ ص: 254 ] وَفِيهِ: جَوَازُ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحْرَمًا؛ إِذَا وُجِدَتْ فِي طَرِيقٍ قَدْ أَعْيَتْ. لَا سِيَّمَا مَعَ جَمَاعَةِ رِجَالٍ صَالِحِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَا. قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَقَدْ أُمِرْنَا: بِالْمُبَاعَدَةِ مِنْ أَنْفَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَانَتْ عَادَتُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مُبَاعَدَتَهُنَّ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ خُصُوصِيَّةً لَهُ، لِكَوْنِهَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُخْتَ عَائِشَةَ، وَامْرَأَةً لِلزُّبَيْرِ، فَكَانَتْ كَإِحْدَى أَهْلِهِ وَنِسَائِهِ. مَعَ مَا خُصَّ بِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ. وَأَمَّا إِرْدَافُ الْمَحَارِمِ؛ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، بِكُلِّ حَالٍ.

(قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ، بَعْدَ ذَلِكَ، بِخَادِمٍ) . أَيْ: جَارِيَةٍ تَخْدُمُنِي. يُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى: "خَادِمٌ" بِلَا هَاءٍ.

(فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ. فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي) . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى؛ بِلَفْظِ: "قَالَتْ: كُنْتُ أَخْدُمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ. وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ. وَكُنْتُ أَسُوسُهُ. فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخِدْمَةِ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَيَّ، مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ. كُنْتُ أَحْتَشُّ لَهُ، وَأَقُومُ عَلَيْهِ، وَأَسُوسُهُ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهَا [ ص: 255 ] أَصَابَتْ خَادِمًا. جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: سَبْيٌ؛ فَأَعْطَاهَا خَادِمًا. قَالَ: كَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَأَلْقَتْ عَنِّي مُؤْنَتَهُ". الْحَدِيثَ.

(الشرح)

(عن أسماء بنت أبي بكر) رضي الله عنهما؛ (قالت: تزوجني الزبير، وما [ ص: 251 ] له في الأرض من مال، ولا مملوك، ولا شيء: غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه. وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن) .

"الغرب" بفتح الغين، وسكون الراء، ثم موحدة. وهو: الدلو الكبير. وهذا كله: من المعروف والمروءات، التي أطبق الناس عليها. وهو أن المرأة تخدم زوجها: بهذه الأمور ونحوها؛ من الخبز، والطبخ، وغسل الثياب، وغير ذلك. وكله تبرع من المرأة، وإحسان منها إلى زوجها، وحسن معاشرة، وفعل معروف معه. ولا يجب عليها شيء من ذلك. بل لو امتنعت من جميع هذا، لم تأثم. ويلزمه هو: تحصيل هذه الأمور لها. ولا يحل له: إلزامها بشيء من هذا. وإنما تفعله المرأة تبرعا. وهي عادة جميلة، استمر عليها النساء، من الزمن الأول إلى الآن. وإنما الواجب على المرأة شيئان؛ تمكينها زوجها من نفسها، وملازمة بيته. هذا كلام النووي، "رحمه الله تعالى". ولنا جواب على سؤال عن هذه المسألة؛ في كتابنا "دليل الطالب، على أرجح المطالب". وفيه تفصيل هذا الإجمال، وكلام مبسوط يشفي العليل، ويروي الغليل، إن شاء الله تعالى.

(ولم أكن أحسن أخبز. فكان يخبز لي جارات لي من الأنصار.

[ ص: 252 ] وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى، من أرض الزبير) . أشار عياض إلى أن معناه: أنها تلتقط من النوى الساقط فيها، مما أكله الناس وألقوه. قال: وفيه: جواز التقاط المطروحات، رغبة عنها؛ كالنوى، والسنابل، وخرق المزابل وسقاطتها، وما يطرحه الناس من رديء المتاع، ورديء الخضر، وغيرها؛ مما يعرف أنهم تركوه رغبة عنه. فكل هذا: يحل التقاطه، ويملكه الملتقط. قال: وقد لقطه الصالحون، وأهل الورع. ورأوه من الحلال المحض، وارتضوه لأكلهم ولباسهم.

(التي أقطعه رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: على رأسي وهي على ثلثي فرسخ) . قال أهل اللغة: يقال: "أقطعه"، أعطاه قطيعة. وهي قطعة أرض، سميت: "قطيعة"؛ لأنها اقتطعها من جملة الأرض. "والفرسخ": ثلاثة أميال. "والميل": ستة آلاف ذراع. "والذراع) : أربع وعشرون إصبعا، معترضة معتدلة. "والإصبع": ست شعيرات، معترضات معتدلات.

وفيه: دليل لجواز إقطاع الإمام. فأما الأرض المملوكة لبيت [ ص: 253 ] المال؛ فلا يملكها أحد: إلا بإقطاع الإمام. ثم تارة: يقطع رقبتها ويملكها لإنسان يرى فيه مصلحة، فيجوز. ويملكها، كما يملك ما يعطيه من الدراهم والدنانير وغيرها: إذا رأى فيه مصلحة. وتارة: يقطعه، فيستحق الانتفاع بها: مدة الإقطاع.

وأما الموات، فيجوز لكل أحد إحياؤه. ولا يفتقر إلى إذن إمام. هذا: مذهب مالك، والشافعي، والجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يملك الموات بالإحياء؛ إلا بإذن الإمام.

(قالت: فجئت يوما والنوى على رأسي. فلقيت رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، ومعه نفر من أصحابه. فدعاني، ثم قال: "إخ إخ"، ليحملني خلفه. قالت: فاستحييت، وعرفت غيرتك) . لفظة: "إخ إخ" بكسر الهمزة، وإسكان الخاء المعجمة. وهي: كلمة، تقال للبعير ليبرك.

(فقال: والله! لحملك النوى على رأسك) ، أشد من ركوبك معه) . أي: مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي هذا الحديث: جواز الإرداف على الدابة، إذا كانت مطيقة. وله نظائر كثيرة، في الصحيح.

وفيه: ما كان عليه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم، ومواساتهم فيما أمكنه.

[ ص: 254 ] وفيه: جواز إرداف المرأة التي ليست محرما؛ إذا وجدت في طريق قد أعيت. لا سيما مع جماعة رجال صالحين. قال النووي: ولا شك في جواز مثل هذا. قال عياض: هذا خاص للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ بخلاف غيره، فقد أمرنا: بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء. وكانت عادته، صلى الله عليه وآله وسلم: مباعدتهن؛ ليقتدي به أمته. قال: وإنما كانت هذه خصوصية له، لكونها بنت أبي بكر، وأخت عائشة، وامرأة للزبير، فكانت كإحدى أهله ونسائه. مع ما خص به، صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أملك لإربه. وأما إرداف المحارم؛ فجائز بلا خلاف، بكل حال.

(قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر، بعد ذلك، بخادم) . أي: جارية تخدمني. يقال للذكر والأنثى: "خادم" بلا هاء.

(فكفتني سياسة الفرس. فكأنما أعتقني) . وفي رواية أخرى؛ بلفظ: "قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت. وكان له فرس. وكنت أسوسه. فلم يكن من الخدمة شيء أشد علي، من سياسة الفرس. كنت أحتش له، وأقوم عليه، وأسوسه. قال: ثم إنها [ ص: 255 ] أصابت خادما. جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سبي؛ فأعطاها خادما. قال: كفتني سياسة الفرس، فألقت عني مؤنته". الحديث.