الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 111 ] بسم الله الرحمن الرحيم

          مقدمة القاضي عياض

          اللهم صل على محمد وآله وسلم

          قال الفقيه القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي رحمة الله عليه - : الحمد لله المنفرد باسمه الأسمى ، المختص بالملك الأعز الأحمى ، الذي ليس دونه منتهى ، ولا وراءه مرمى ، الظاهر لا تخيلا ووهما ، الباطن تقدسا لا عدما ، وسع كل شيء رحمة وعلما ، وأسبغ على أوليائه نعما عما ، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم عربا وعجما ، وأزكاهم محتدا ومنمى ، وأرجحهم عقلا وحلما ، وأوفرهم علما وفهما ، وأقواهم يقينا وعزما ، وأشدهم بهم رأفة ورحما ، زكاه روحا وجسما ، وحاشاه عيبا ووصما ، وآتاه حكمة وحكما ، وفتح به أعينا عميا ، وقلوبا غلفا ، وآذانا صما ، فآمن به وعزره ، ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسما ، وكذب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتما ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى

          [ ص: 112 ] [ الإسراء : 72 ] - صلى الله عليه وسلم - صلاة تسمو وتنمى ، وعلى آله وسلم تسليما .

          أما بعد

          أشرق الله قلبي وقلبك بأنوار اليقين ، ولطف لي ولك بما لطف لأوليائه المتقين ، الذين شرفهم الله بنزل قدسه ، وأوحشهم من الخليقة بأنسه ، وخصهم من معرفته ومشاهدة عجائب ملكوته وآثار قدرته بما ملأ قلوبهم حبرة ، ووله عقولهم في عظمته حيرة ، فجعلوا همهم به واحدا ، ولم يروا في الدارين غيره مشاهدا ، فهم بمشاهدة جماله وجلاله يتنعمون ، وبين آثار قدرته وعجائب عظمته يترددون ، وبالانقطاع إليه والتوكل عليه يتعززون ، لهجين بصادق قوله : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون [ الأنعام : 91 ] .

          فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - وما يجب له من توقير وإكرام ، وما حكم من لم يوف واجب عظيم ذلك القدر ، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر ، وأن أجمع لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال ، وأبينه بتنزيل صور وأمثال . .

          فاعلم أكرمك الله أنك حملتني من ذلك أمرا إمرا ، وأرهقتني فيما ندبتني إليه عسرا ، وأرقيتني بما كلفتني مرتقى صعبا ، ملأ قلبي رعبا ، فإن الكلام في ذلك يستدعي تقرير أصول وتحرير فصول ، والكشف عن غوامض ودقائق من علم الحقائق ، [ ص: 113 ] مما يجب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويضاف إليه ، أو يمتنع أو يجوز عليه ، ومعرفة النبي ، والرسول ، والرسالة ، والنبوة ، والمحبة ، والخلة ، وخصائص هذه الدرجة العلية ، وهاهنا مهامه فيح تحار فيها القطا ، وتقصر بها الخطى ، ومجاهل تضل فيها الأحلام إن لم تهتد بعلم علم ونظر سديد ، ومداحض تزل بها الأقدام ، إن لم تعتمد على توفيق من الله وتأييد .

          لكني لما رجوته لي ولك في هذا السؤال ، والجواب من نوال وثواب ، بتعريف قدره الجسيم ، وخلقه العظيم ، وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق ، وما يدان الله - تعالى - به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا [ المدثر : 31 ] .

          ولما أخذ الله - تعالى - على الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه . ولما حدثنا به أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، قال : حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا أبو عمر النمري حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن حدثنا أبو بكر محمد بن بكر ، حدثنا سليمان بن [ ص: 114 ] الأشعث ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا علي بن الحكم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة . فبادرت إلى نكت مسفرة عن وجه الغرض ، مؤديا من ذلك الحق المفترض ، اختلستها على استعجال ، لما المرء بصدده من شغل البدن ، والبال ، بما طوقه من مقاليد [ ص: 115 ] المحنة التي ابتلي بها ، فكادت تشغل عن كل فرض ونفل ، وترد بعد حسن التقويم إلى أسفل سفل ، ولو أراد الله بالإنسان خيرا لجعل شغله وهمه كله فيما يحمد غدا ولا يذم محله ، فليس ثم سوى نضرة النعيم ، أو عذاب الجحيم ، ولكان عليه بخويصته ، واستنقاذ مهجته وعمل صالح يستزيده ، وعلم نافع يفيده أو يستفيده . جبر الله تعالى صدع قلوبنا ، وغفر عظيم ذنوبنا ، وجعل جميع استعدادنا لمعادنا ، وتوفر دواعينا فيما ينجينا ويقربنا إليه زلفة ، ويحظينا بمنه ورحمته .

          ولما نويت تقريبه ، ودرجت تبويبه ، ومهدت تأصيله ، وخلصت تفصيله ، وانتحيت حصره وتحصيله ، ترجمته : بـ " الشفاء بتعريف حقوق المصطفى " . وحصرت الكلام فيه في أربعة أقسام :

          1 - القسم الأول : في تعظيم العلي الأعلى لقدر هذا النبي قولا وفعلا ، وتوجه الكلام فيه إلى أربعة أبواب :

          الباب الأول :

          في ثنائه - تعالى - عليه ، وإظهاره عظيم قدره لديه ، وفيه عشرة فصول :

          الباب الثاني :

          في تكميله - تعالى - له المحاسن خلقا وخلقا ، وقرانه جميع الفضائل الدينية ، والدنيوية فيه نسقا ، وفيه سبعة وعشرون فصلا .

          الباب الثالث :

          فيما ورد من صحيح الأخبار ، ومشهورها بعظيم قدره عند ربه ومنزلته ، وما خصه الله به في الدارين من كرامته ، وفيه اثنا عشر فصلا .

          الباب الرابع :

          فيما أظهره الله - تعالى - على يديه من الآيات ، والمعجزات ، وشرفه به من الخصائص ، والكرامات ، وفيه ثلاثون فصلا .

          [ ص: 116 ] 2 - القسم الثاني : فيما يجب على الأنام من حقوقه - عليه السلام - ، ويترتب القول فيه في أربعة أبواب :

          الباب الأول :

          في فرض الإيمان به ، ووجوب طاعته واتباع سنته ، وفيه خمسة فصول .

          الباب الثاني :

          في لزوم محبته ومناصحته ، وفيه ستة فصول .

          الباب الثالث :

          في تعظيم أمره ولزوم توقيره ، وبره ، وفيه سبعة فصول .

          الباب الرابع :

          في حكم الصلاة عليه ، والتسليم ، وفرض ذلك وفضيلته ، وفيه عشرة فصول .

          3 - القسم الثالث : فيما يستحيل في حقه - صلى الله عليه وسلم ، وما يجوز عليه ، وما يمتنع ، ويصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه . وهذا القسم أكرمك الله تعالى - هو سر الكتاب ، ولباب ثمرة هذه الأبواب ، وما قبله له كالقواعد ، والتمهيدات ، والدلائل على ما نورده فيه من النكت البينات ، وهو الحاكم على ما بعده ، والمنجز من غرض هذا التأليف وعده ، وعند التقصي لموعدته ، والتقصي عن عهدته ، يشرق صدر العدو اللعين ، ويشرق قلب المؤمن باليقين ، وتملأ أنواره حوائج صدره ويقدر العاقل النبي حق قدره . ويتحرر الكلام فيه في بابين :

          الباب الأول :

          فيما يختص بالأمور الدينية ، ويتثبث به القول في العصمة وفيه ستة عشر فصلا .

          [ ص: 117 ] الباب الثاني :

          في أحواله الدنيوية ، وما يجوز طروه عليه من الأعراض البشرية ، وفيه تسعة فصول .

          القسم الرابع :

          في تصرف وجوه الأحكام على من تنقصه أو سبه - صلى الله عليه وسلم - وينقسم الكلام فيه في بابين :

          الباب الأول :

          في بيان ما هو في حقه سب ونقص ، من تعريض ، أو نص ، وفيه عشرة فصول .

          الباب الثاني :

          في حكم شانئه ومؤذيه ومنتقصه وعقوبته ، وذكر استتابته ، والصلاة عليه ووراثته ، وفيه عشرة فصول .

          وختمناه بباب ثالث : جعلناه تكملة لهذه المسألة ، ووصلة للبابين اللذين قبله في حكم من سب الله - تعالى - ورسله وملائكته وكتبه ، وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه . واختصر الكلام فيه في خمسة فصول ، وبتمامها ينتجز الكتاب ، وتتم الأقسام ، والأبواب ، ويلوح في غرة الإيمان لمعة منيرة ، وفي تاج التراجم درة خطيرة ، تزيح كل لبس ، وتوضح كل تخمين وحدس ، وتشفي صدور قوم مؤمنين ، وتصدع بالحق ، وتعرض عن الجاهلين ، وبالله - تعالى - لا إله سواه أستعين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية