الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        [ ص: 37 ] مقدمة المؤلف

                                                        الحمد لله منطق البلغاء باللغى في البوادي ، ومودع اللسان ألسن اللسن الهوادي ، ومخصص عروق القيصوم ، وغضى القصيم بما لم ينله العبهر والجادي ، ومفيض الأيادي بالروائح والغوادي ، للمجتدي والجادي ، وناقع غلة الصوادي بالأهاضيب الثوادي ، ودافع معرة العوادي بالكرم الممادي ، ومجري الأوداء من عين العطاء لكل صادي ، باعث النبي الهادي ، مفحما باللسان الضادي كل مضادي ، مفخما لا تشينه الهجنة واللكنة والضوادي ، محمد خير من حضر النوادي ، وأفصح من ركب الخوادي ، وأبلغ من حلب العوادي ، بسقت دوحة رسالته فظهرت على شوك الكوادي ، واستأسدت رياض نبوته فعيت في المآسد الليوث العوادي ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدآدي ، وبدور القوادي ، ما ناح الحمام الشادي ، وساح النعام القادي ، وصاح بالأنغام [ ص: 38 ] الحادي ، ورشفت الطفاوة رضاب الطل من كظام الجل والجادي .

                                                        وبعد ، فإن للعلم رياضا وحياضا ، وخمائل وغياضا ، وطرائق وشعابا ، وشواهق وهضابا . يتفرع عن كل أصل منه أفنان وفنون ، وينشق عن كل دوحة منه خيطان وغصون ، وإن علم اللغة هو الكافل بإبراز أسرار الجميع ، الحافل بما يتضلع منه القاحل والكاهل ، والفاقع والرضيع ، وإن بيان الشريعة لما كان مصدره عن لسان العرب ، وكان العمل بموجبه لا يصح إلا بإحكام العلم بمقدمته ، وجب على روام العلم وطلاب الأثر ، أن يجعلوا عظم اجتهادهم واعتمادهم ، وأن يصرفوا جل عنايتهم في ارتيادهم إلى علم اللغة والمعرفة بوجوهها ، والوقوف على مثلها ورسومها . وقد عني به من الخلف والسلف في كل عصر عصابة ، هم أهل الإصابة ، أحرزوا دقائقه ، وأبرزوا حقائقه ، وعمروا دمنه ، وفرعوا قننه ، وقنصوا شوارده ، ونظموا قلائده ، وأرهفوا مخاذم البراعة ، وأرعفوا مخاطم اليراعة ، فألفوا وأفادوا ، وصنفوا وأجادوا ، وبلغوا من المقاصد قاصيتها ، وملكوا من المحاسن ناصيتها ، جزاهم الله رضوانه ، وأحلهم من رياض القدس ميطانه .

                                                        هذا ، وإني قد نبغت في هذا الفن قديما ، وصبغت به أديما ، ولم أزل في خدمته مستديما ، وكنت برهة من الدهر ألتمس كتابا جامعا بسيطا ، ومصنفا على الفصح والشوارد محيطا ، ولما أعياني الطلاب ، شرعت في كتابي الموسوم ب " اللامع المعلم العجاب ، الجامع بين المحكم والعباب " ، فهما غرتا الكتب المصنفة في هذا الباب ، ونيرا براقع الفضل والآداب ، وضممت إليهما زيادات امتلأ بها الوطاب ، واعتلى منها الخطاب ، ففاق كل مؤلف في هذا [ ص: 39 ] الفن هذا الكتاب . غير أني خمنته في ستين سفرا ، يعجز تحصيله الطلاب ، وسئلت تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام ، وعمل مفرغ في قالب الإيجاز والإحكام ، مع التزام إتمام المعاني ، وإبرام المباني ، فصرفت صوب هذا القصد عناني ، وألفت هذا الكتاب محذوف الشواهد ، مطروح الزوائد ، معربا عن الفصح والشوارد ، وجعلت بتوفيق الله تعالى زفرا في زفر ، ولخصت كل ثلاثين سفرا في سفر ، وضمنته خلاصة ما في " العباب " ، و " المحكم " ، وأضفت إليه زيادات من الله تعالى بها وأنعم ، ورزقنيها عند غوصي عليها من بطون الكتب الفاخرة ، الدأماء الغطمطم ، وسميته " القاموس المحيط " ; لأنه البحر الأعظم .

                                                        ولما رأيت إقبال الناس على " صحاح " الجوهري ، وهو جدير بذلك ، غير أنه فاته نصف اللغة أو أكثر ، إما بإهمال المادة ، أو بترك المعاني الغريبة النادة ، أردت أن يظهر للناظر بادئ بدء ، فضل كتابي هذا عليه ، فكتبت بالحمرة المادة المهملة لديه ، وفي سائر التراكيب تتضح المزية بالتوجه إليه ، ولم أذكر ذلك إشاعة للمفاخر ، بل إذاعة لقول الشاعر : "

                                                        كم ترك الأول للآخر

                                                        " .

                                                        وأنت أيها اليلمع العروف ، والمعمع اليهفوف ، إذا تأملت صنيعي هذا ، وجدته مشتملا على فرائد أثيرة ، وفوائد كثيرة : من حسن الاختصار ، وتقريب العبارة ، وتهذيب الكلام ، وإيراد المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة .

                                                        ومن أحسن ما اختص به هذا الكتاب : تخليص الواو من الياء ; وذلك قسم يسم المصنفين بالعي والإعياء . ومنها : أني لا أذكر ما جاء من جمع فاعل المعتل العين على فعلة ، إلا أن يصح موضع العين منه ، كجولة وخولة ، وأما ما جاء منه معتلا ; كباعة وسادة ، فلا أذكره لاطراده . ومن بديع اختصاره ، وحسن ترصيع تقصاره : أني إذا ذكرت صيغة المذكر ، أتبعتها [ ص: 40 ] المؤنث بقولي : وهي بهاء ، ( ولا أعيد الصيغة ) ، وإذا ذكرت المصدر مطلقا ، أو الماضي بدون الآتي ، ولا مانع ; فالفعل على مثال كتب ، وإذا ذكرت آتيه بلا تقييد ، فهو على مثال ضرب . على أني أذهب إلى ما قال أبو زيد : إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على فعل ، فأنت في المستقبل بالخيار : إن شئت قلت يفعل بضم العين ، وإن شئت قلت يفعل بكسرها ( وكل كلمة عريتها عن الضبط ; فإنها بالفتح ، إلا ما اشتهر بخلافه اشتهارا رافعا للنزاع من البين ) وما سوى ذلك ، فأقيده بصريح الكلام ، غير مقتنع بتوشيح القلام ، مكتفيا بكتابة ع ، د ، ة ، ج ، م ، عن قولي : موضع ، وبلد ، وقرية ، والجمع ، ومعروف . فتلخص ، وكل غث - إن شاء الله - عنه مصروف .

                                                        ثم إني نبهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهري رحمه الله خلاف الصواب ، غير طاعن فيه ، ولا قاصد بذلك تنديدا له ، وإزراء عليه ، وغضا منه ، بل استيضاحا للصواب ، واسترباحا للثواب ، وتحرزا وحذارا من أن ينمى إلي التصحيف ، أو يعزى إلي الغلط والتحريف . على أني لو رمت للنضال إيتار القوس ، لأنشدت بيتي الطائي حبيب بن أوس . ولو لم أخش ما يلحق المزكي نفسه من المعرة والدمان ، لتمثلت بقول أحمد بن سليمان ; أديب معرة النعمان . ولكن أقول كما قال أبو العباس المبرد في " الكامل " ، وهو القائل المحق : ليس لقدم العهد يفضل القائل ، ولا لحدثانه يهتضم المصيب ، ولكن يعطى كل ما يستحق .

                                                        واختصصت كتاب الجوهري من بين الكتب اللغوية ، مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة ، والأغلاط الفاضحة ، لتداوله واشتهاره بخصوصه ، واعتماد المدرسين على نقوله ونصوصه .

                                                        وهذه اللغة الشريفة ، التي لم تزل ترفع العقيرة غريدة بانها ، وتصوغ ذات طوقها بقدر القدرة فنون ألحانها ، وإن دارت الدوائر على ذويها ، وأحنت على نضارة رياض عيشهم تذويها ، حتى لا لها اليوم دارس سوى الطلل في المدارس ، ولا مجاوب إلا الصدى ما بين أعلامها الدوارس ، ولكن لم يتصوح في عصف تلك البوارح نبت تلك الأباطح أصلا ورأسا ، ولم [ ص: 41 ] تستلب الأعواد المورقة عن آخرها ، وإن أذوت الليالي غراسا . ولا تتساقط عن عذبات أفنان الألسنة ثمار اللسان العربي ، ما اتقت مصادمة هوج الزعازع بمناسبة الكتاب ودولة النبي .

                                                        ولا يشنأ هذه اللغة الشريفة إلا من اهتاف به ريح الشقاء ، ولا يختار عليها إلا من اعتاض السافية من الشحواء ، أفادتها ميامن أنفاس المستجن بطيبة طيبا ، فشدت به أيكية النطق على فنن اللسان رطيبا ، يتداولها القوم ما ثنت الشمال معاطف غصن ، ومرت الجنوب لقحة مزن ، استظلالا بدولة من رفع منارها فأعلى ، ودل على شجرة الخلد وملك لا يبلى . وكيف لا ، والفصاحة أرج بغير ثيابه لا يعبق ، والسعادة صب سوى تراب بابه لا يعشق . شعر :


                                                        إذا تنفس من واديك ريحان     تأرجت من قميص الصبح أردان

                                                        وما أجدر هذا اللسان - وهو حبيب النفس ، وعشيق الطبع ، وسمير ضمير الجمع ، وقد وقف على ثنية الوداع ، وهم قبلي مزنه بالإقلاع - بأن يعتنق ضما والتزاما ، كالأحبة لدى التوديع ، ويكرم بنقل الخطوات على آثاره حالة التشييع . وإلى اليوم نال به القوم المراتب والحظوظ ، وجعلوا حماطة جلجلانهم لوحه المحفوظ . وفاح من زهر تلك الخمائل ، وإن أخطأه صوب الغيوث الهواطل ، ما تتولع به الأرواح لا الرياح ، وتزهى به الألسن لا الأغصن ، ويطلع طلعة البشر لا الشجر ، ويجلوه المنطق السحار لا الأسحار ، تصان عن الخبط أوراق عليها اشتملت ، ويترفع عن السقوط نضيج ثمر ، أشجاره احتملت ، من لطف بلاغة لسانهم ما يفضح فروع الآس رجل جعدها ماشطة الصبا ، ومن حسن بيانهم ما استلب الغصن رشاقته فقلق اضطرابا شاء أو أبى . ولله ضبابة من الخلفاء الحنفاء ، والملوك العظماء ، الذين تقلبوا في أعطاف الفضل ، وأعجبوا بالمنطق الفصل ، وتفكهوا بثمار الأدب الغض ، وأولعوا بأبكار المعاني ولع المفترع المفتض . شمل القوم اصطناعهم ، وطربت لكلمهم الغر أسماعهم ، بل أنعش الجدود العواثر ألطافهم ، واهتزت لاكتساء حلل الحمد أعطافهم ، راموا تخليد الذكر بالإنعام على الأعلام ، وأرادوا أن يعيشوا بعمر ثان بعد مشارفة الحمام . طواهم الدهر فلم يبق [ ص: 42 ] لأعلام العلوم رافع ، ولا عن حريمها الذي هتكته الليالي مدافع ، بل زعم الشامتون بالعلم وطلابه ، والقائلون بدولة الجهل وأحزابه ، أن الزمان بمثلهم لا يجود ، وأن وقتا قد مضى بهم لا يعود . فرد عليهم الدهر مراغما أنوفهم ، وتبين الأمر بالضد جاليا حتوفهم ، فطلع صبح النجح من آفاق حسن الاتفاق ، وتباشرت أرباب تلك السلع بنفاق الأسواق ، وناهض ملوك العهد لتنفيذ الأحكام ، مالك رق العلوم وربقة الكلام ، برهان الأساطين الأعلام ، سلطان سلاطين الإسلام ، غرة وجه الليالي ، قمر براقع الترافع والتعالي ، عاقد ألوية فنون العلوم كلها ، شاهر سيوف العدل رد الغرار إلى الأجفان بسلها ، مقلد أعناق الباريا بالتحقيق طوق امتنانه ، مقرط آذان الليالي على ما بلغ المسامع شنوف بيانه ، ممهد الدين ومؤيده ، مسدد الملك ومشيده :


                                                        مولى ملوك الأرض من في وجهه     مقباس نور أيما مقباس
                                                        .

                                                        بدر محيا وجهه الأسنى لنا     مغن عن القمرين والنبراس
                                                        .

                                                        من أسرة شرفت وجلت فاعتلت     عن أن يقاس علاؤها بقياس
                                                        .

                                                        رووا الخلافة كابرا عن كابر     بصحيح إسناد بلا إلباس
                                                        .

                                                        فروى علي عن رسول مثل ما     يرويه يوسف عن عمر ذي الباس
                                                        .

                                                        ورواه داود صحيحا عن عمر     وروى علي عنه للجلاس
                                                        .

                                                        ورواه عباس كذلك عن علي     ورواه إسماعيل عن عباس

                                                        .

                                                        تهب به على رياض المنى ريحا جنوب وشمال ، وتقيل بمكانه جنتان عن يمين وشمال ، وتشتمل على مناكب الآفاق أردية عواطفه ، وتسيل طلاع الأرض للأرفاق أودية عوارفه ، وتشمل رأفته البلاد ، والعباد ، وتضرب دون المحن والأضداد الجنن والأسداد . ولم يسع البليغ سوى سكوت الحوت بملتطم تيار بخار فوائده ، ولم ترتم جواري الزهر في البحر الأخضر إلا لتضاهي فرائد قلائده ، بحر على عذوبة مائه تملأ السفائن جواهره ، وتزهى بالجواري المنشآت من بنات الخاطر زواخره . بر سال طلاع الأرض أودية جوده ، ولم يرض للمجتدي نهرا ، وطامي عباب [ ص: 43 ] [ ص: 44 ] الكرم يجاري نداه الرافدين وبهرا ، خضم لا يبلغ كنهه المتعمق عوض ، ولا يعطى الماهر أمانه من الغرق إن اتفق له في لجته خوض . محيط تنصب إليه الجداول فلا يرد ثمادها ، وتغترف من جمته السحب فتملأ مزادها .

                                                        فأتحفت مجلسه العالي بهذا الكتاب الذي سما إلى السماء لما تسامى ، وأنا في حمله إلى حضرته ، وإن دعي بالقاموس ، كحامل القطر إلى الدأماء ، والمهدي إلى خضارة أقل ما يكون من أنداء الماء . وها أنا أقول إن احتمله مني اعتناء ، فالزبد وإن ذهب جفاء يركب غارب البحر اعتلاء . وما أخاف على الفلك انكفاء ، وقد هبت رياح عنايته كما اشتهت السفن رخاء . وبم أعتذر من حمل الدر من أرض الجبال إلى عمان ، وأرى البحر يذهب ماء وجهه لو حمل برسم الخدمة إليه الجمان ، وفؤاد البحر يضطرب كاسمه رجافا لو أتحفه بالمرجان ، أو أنفذ إلى البحرين ، أعني يديه ، الجواهر الثمان ، لا زالت حضرته التي هي جزيرة بحر الجود من خالدات الجزائر ، ومقر أناس يقابلون الخرز المحمول بأنفس الجواهر ويرحم الله عبدا قال آمينا .

                                                        وكتابي هذا - بحمد الله تعالى - صريح ألفي مصنف من الكتب الفاخرة ، وسنيح ألفي قلمس من العيالم الزاخرة ، والله أسأل أن يثيبني به جميل الذكر في الدنيا ، وجزيل الأجر في الآخرة ، ضارعا إلى من ينظر من عالم في عملي ، أن يستر عثاري وزللي ، ويسد بسداد فضله خللي ، ويصلح ما طغى به القلم ، وزاغ عنه البصر ، وقصر عنه الفهم ، وغفل عنه الخاطر ، فالإنسان محل النسيان ، وإن أول ناس أول الناس ، وعلى الله تعالى التكلان .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية