الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          977 - مسألة : والأضحية جائزة بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع ، أو طائر ، كالفرس ، والإبل ، وبقر الوحش ، والديك ، وسائر الطير والحيوان الحلال أكله ، [ ص: 30 ] والأفضل في كل ذلك ما طاب لحمه وكثر وغلا ثمنه .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا في أول كلامنا في الأضاحي قول بلال : ما أبالي لو ضحيت بديك ، وعن ابن عباس في ابتياعه لحما بدرهمين وقال : هذه أضحية ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          وروينا أيضا من طريق وكيع عن كثير بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس وكثير بن زيد هذا هو الذي عولوا عليه في احتجاجهم بالأثر الذي لا يصح " المسلمون عند شروطهم " وثقوه هنالك ولم يروه غيره .

                                                                                                                                                                                          والحسن بن حي يجيز الأضحية ببقرة وحشية عن سبعة ، وبالظبي أو الغزال عن واحد .

                                                                                                                                                                                          وأجاز أبو حنيفة وأصحابه التضحية بما حملت به البقرة الإنسية من الثور الوحشي ، وبما حملت به العنز من الوعل .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : لا تجزي إلا من الإبل ، والبقر ، والغنم .

                                                                                                                                                                                          ورأى مالك : النعجة ، والعنز ، والتيس أفضل من الإبل ، والبقر : في الأضحية .

                                                                                                                                                                                          وخالفه في ذلك أبو حنيفة ، والشافعي فرأيا الإبل أفضل ، ثم البقر ، ثم الضأن ، ثم الماعز - وما نعلم لهذا القول حجة فنوردها أصلا ، إلا أن يدعوا إجماعا في جوازها من هذه الأنعام ، والخلاف في غيرها .

                                                                                                                                                                                          فهذا ليس بشيء ، ويعارضون بما صح في ذلك عن بلال ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا عندهم حجة إذا وافقهم .

                                                                                                                                                                                          وأما مراعاة الإجماع فيؤخذ به ويترك ما اختلف فيه ، فهذا يهدم عليهم جميع مذاهبهم إلا يسيرا جدا منها ، ويلزمهم أن لا يوجبوا في الصلاة ، أو الصوم ، والحج ، والزكاة والبيوع ، إلا ما أجمع عليه ، وفي هذا هدم مذهبهم كله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما المردود إليه عند التنازع فهو ما افترض الله تعالى الرد إليه فوجدنا النصوص تشهد لقولنا ، وذلك أن الأضحية قربة إلى الله تعالى ، فالتقرب إلى الله تعالى - بكل ما لم يمنع منه قرآن ولا نص سنة - حسن ، وقال تعالى : { وافعلوا الخير [ ص: 31 ] لعلكم تفلحون } والتقرب إليه عز وجل بما لم يمنع من التقرب إليه به فعل خير .

                                                                                                                                                                                          نا يونس بن عبد الله بن مغيث نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار بندار نا صفوان بن عيسى نا ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مثل المهجر إلى الجمعة كمثل من يهدي بدنة ، ثم كمن يهدي بقرة ، ثم كمن يهدي بيضة } .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة } .

                                                                                                                                                                                          ففي هذين الخبرين هدي دجاجة ، وعصفور ، وتقريبهما ، وتقريب بيضة ; والأضحية تقريب بلا شك ، وفيهما أيضا فضل الأكبر فالأكبر جسما فيه ومنفعة للمساكين ، ولا معترض على هذين النصين أصلا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ومن البرهان على أن الإبل والبقر أفضل من الغنم الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روينا من طريق البخاري ، والخبر الذي أوردنا في المسألة التالية [ ص: 32 ] لهذه ففيها أمره عليه السلام في الأضاحي بالنحر .

                                                                                                                                                                                          ولا يخلو هذا من أن يكون عليه السلام أمر بالنحر في الإبل والبقر ، أو في الغنم ، فإن كان أمر بذلك في الغنم ، فهذا مبطل لقول مالك : إن النحر في الغنم لا يحل ، ولا يكون ذكاة فيها ، وإن كان أمر بذلك عليه السلام في الإبل والبقر والغنم لحسن المحال الباطل الممتنع بيقين لا شك فيه أن يكون عليه السلام يحض أمته وأصحابه على التضحية بالإبل والبقر مع عظيم الكلفة فيها وغلو أثمانها ويتركون الأرخص والأقل ثمنا وهو أفضل ، وهذه إضاعة المال التي حرمها الله تعالى ، وإنما التضحية بالغنم ضأنها وماعزها رفق بالناس لقلة أثمانها وتفاهة أمرها وتخفيف لهم بذلك عن الأفضل الذي هو أشق في النفقة لله عز وجل ، وهذا مما لا شك فيه .

                                                                                                                                                                                          واحتج من رأى أن الضأن أفضل بخبر رويناه من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة { أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى : يا محمد إن الجذع من الضأن خير من السيد من المعز ، وإن الجذع من الضأن خير من السيد من البقر ، وإن الجذع من الضأن خير من السيد من الإبل ، ولو علم الله ذبحا هو أفضل منه لفدى به إبراهيم عليه السلام } .

                                                                                                                                                                                          وبخبر رويناه من طريق عبد الرزاق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال : { مر النعمان بن أبي فطيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش أقرن أعين فقال عليه السلام : ما أشبه هذا الكبش بالكبش الذي ذبح إبراهيم عليه السلام } .

                                                                                                                                                                                          وروي نحوه من طريق زياد بن ميمون عن أنس .

                                                                                                                                                                                          وبخبر رويناه من طريق وكيع عن هشام بن سعد عن حاتم بن أبي نصر عن عبادة بن نسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { خير الأضحية الكبش } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذه أخبار مكذوبة - :

                                                                                                                                                                                          أما خبر أبي هريرة ، وعبادة بن نسي فعن هشام بن سعد وهو ضعيف جدا ، ضعفه جدا واطرحه أحمد ، وأساء القول فيه جدا ولم [ ص: 33 ] يجز الرواية به عنه يحيى بن سعيد - وزياد بن ميمون مذكور بالكذب .

                                                                                                                                                                                          وخبر عبد الرزاق عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وهو ضعيف ومرسل مع ذلك - وأيضا ففي الخبر المنسوب إلى أبي هريرة كذب ظاهر وهو قوله : إنه فدى الله به إبراهيم ولم يفد إبراهيم بلا شك وإنما فدى ابنه .

                                                                                                                                                                                          وأما الاحتجاج بأنه فدى الذبيح بكبش فباطل ، ما صح ذلك قط ، وقد قيل : إنه كان أروية ، وهبك لو صح فليس فيه فضل سائر الكباش على سائر الحيوان ، ولا كان أمر إبراهيم عليه السلام أضحية فلا مدخل للأضاحي فيه ، وقد قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } إلى قوله تعالى : { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته } فينبغي على هذا أن يكون البقر أفضل من الضأن بهذه الآية البينة الواضحة لا بالظن الكاذب في كبش الذبيح .

                                                                                                                                                                                          وقد قال الله تعالى : { ناقة الله وسقياها } في ناقة صالح فينبغي أن تكون الإبل أفضل من الضأن بهذه الآية البينة الواضحة لا بالظن الكاذب في كبش إبراهيم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                          وموه بعضهم بذكر الأثر الذي فيه الصلاة في مبارك الغنم والنهي عن الصلاة في معاطن الإبل ، لأنه جن خلقت من جن ؟ فقلنا : فليكن هذا عندكم دليلا في فضل الغنم عليها في الهدي ، وأنتم لا تقولون بهذا .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين ؟ قلنا : نعم ، وقد صح أن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمل به مخافة أن يعمل به الناس فيكتب عليهم } .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فقد أهدى غنما مقلدة كما ذكرنا في كتاب الحج فلم يكن ذلك عندكم دليلا على أن الغنم أفضل في الهدي من البقر ; فمن أين وقع لكم هذا الاستدلال في الأضاحي ؟ - وأيضا : { فقد ضحى عليه السلام بالبقر } : روينا من طريق البخاري عن مسدد نا سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت في حديث { لما كنا بمنى أتيت بلحم بقر [ ص: 34 ] كثير فقلت : ما هذا ؟ قالوا : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر } وهذا في حجة الوداع وهو آخر عمله عليه السلام ولم يضح بعدها .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن زبيد اليامي عن الشعبي عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري عن يحيى بن بكير نا الليث بن سعد عن كثير بن فرقد عن نافع أن ابن عمر أخبره قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى } .

                                                                                                                                                                                          والنحر عند مالك - وهو الذي يخالفنا في هذه المسألة - لا يجوز ألبتة في الغنم وإنما هو عنده في الإبل وعلى تكره في البقر - وقد صح أنه عليه السلام كان يضحي بالإبل والبقر ، أو يترك قوله فيجيز النحر في الغنم ولا بد من أحدهما ، ولا يجوز أن يحتج بفعل فعله عليه السلام مباح ذلك الفعل أو غيره بإقرار المحتج على نص قوله عليه السلام في تفضيل الإبل ، ثم البقر ، ثم الضأن .

                                                                                                                                                                                          روينا عن مسلم بن يسار أنه كان يضحي بجزور من الإبل .

                                                                                                                                                                                          وعن سعيد بن المسيب أنه كان يضحي مرة بناقة ، ومرة ببقرة ، ومرة بشاة ، ومرة لا يضحي .

                                                                                                                                                                                          فأما قول مالك في فضل الماعز على البقر ، والإبل ، وفضل البقر على الإبل : فلا نعلم له متعلقا أصلا ولا أحدا قال به قبله - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية