الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب الأولاد ( قال رحمه الله ) اعلم أن الابن الواحد يحرز جميع المال ثبت ذلك بإشارة النص فإن الله تعالى قال { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، ثم جعل للبنت الواحدة النصف بقوله تعالى { وإن [ ص: 139 ] كانت واحدة فلها النصف } وثبت أن للذكر ضعف هذا وضعف النصف الجميع . وثبت ذلك استدلالا بآية الإخوة فإن الله تعالى قال { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } أي يرثها جميع المال .

وإذا ثبت بالنص أن للأخ جميع المال ثبت للابن بدلالة النص لأن الأخ ولد أبيها وولدها أقرب إليها من ولد أبيها والميراث ينبني على الأقرب . قال الله تعالى { مما ترك الولدان والأقربون } وزيادة القرب تدل على قوة الاستحقاق إلا أن الله تعالى لم ينص على جميع المال للبنين لأن ذلك كان معروفا فيما بين العرب فقد كانوا في الجاهلية لا يورثون إلا البنين ومنهم من كان لا يورث إلا الكبار من البنين الذين يحملون السلاح ويورثون العشيرة فإنما بين ما لم يكن معلوما لهم فإن اجتمع البنون فالمال بينهم بالسوية لاستوائهم في سبب الاستحقاق وللبنت الواحدة إذا انفردت النصف ثبت ذلك بالنص وهو قوله تعالى { وإن كانت واحدة فلها النصف } واستدلالا أيضا بميراث الأخت فقد قال الله تعالى { وله أخت فلها نصف ما ترك } والبنت أقرب إليه من الأخت فإن كن ثلاثا فصاعدا فلهن الثلثان بالنص وهو قوله تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } فهذا تنصيص على أنه لا يزاد للبنات على الثلثين عند الانفراد ، وإن كثرن { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان } في قول عامة الصحابة رضوان الله عليهم وهو قول جمهور الفقهاء وكان ابن عباس يقول للبنين النصف ويستدل بظاهر الآية فإن الله تعالى شرط في استحقاق البنات الثلثين أن يكن فوق اثنتين والمعلق بالشرط معدوم قبل الشرط ، وقد تجاذب البنين حالتان إما أن تعتبرهما بالثلاث ، أو بالواحدة واعتبارهما بالواحدة أولى لأن في اعتبارهما بالثلاث إبطال شرط منصوص والقياس لإبطال النص باطل ، وفي أول الآية ما يدل على أن للابنتين النصف لأن الله تعالى قال { للذكر مثل حظ الأنثيين } ومن ترك ابنا وابنتين فللابن النصف ، وهذا إشارة إلى أن حظ الأنثيين النصف ، وفي قوله تعالى فلهن دليل أيضا على ذلك لأن هذا لفظ الجمع والجمع المتفق عليه ثلاثة فأهل اللغة جعلوا الكلام على ثلاثة أوجه الفرد والتثنية والجمع فكان اتفاقا منهم على أن التثنية غير الجمع وللواحد عندهم أبنية مختلفة وكذلك للجمع وليس للتثنية إلا بناء واحدا ومن حيث المعقول في المعنى يعارض الفردين فلا يظهر ترجيح أحد الجانبين وفي الثلاث تتعارض البنات مع الفرد فيترجح جانب الجمع على جانب الفرد .

وإذا ثبت أن اسم الجمع لا يتناول ما دون الثلاث فقد ظهر إلحاق البنتين بالواحدة هذا بيان أصل ابن عباس رضي الله عنه في هذا ، وفي الإخوة في حكم الحجب وحجتنا في ذلك [ ص: 140 ] قوله تعالى { للذكر مثل حظ الأنثيين } فقد جعل للذكر حالة الاختلاط مثل نصيب الابنتين وأدنى الاختلاط أن يجمع ابن وبنت وللابن هنا الثلثان بالاتفاق فعرفنا أن حظ الأنثيين الثلثان ولما صار نصيب البنين معلوما بهذه الإشارة لم يذكر الله تعالى نصيب البنتين أيضا وذكر نصيب ما فوق البنتين بقوله عز وجل { فإن كن نساء فوق اثنتين } والدليل على صحة ما قلنا سبب نزول الآية فإن { سعد بن الربيع رضي الله عنه لما استشهد يوم بدر وكان خلف بنتين وامرأة فاستولى الأخ على ماله فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إن سعدا قتل معك وخلف ابنتين ، وقد غلب عمهما على مالهما ، ولا يرغب في النساء إلا بمال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل الله في ذلك شيئا ، ثم ظهر أثر الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سرى عنه قال النبي عليه السلام قفوا مال سعد فقد أنزل الله تعالى في ذلك ما إن بينه لي بينته لكم وتلا عليهم قوله تعالى { للرجال نصيب } الآية ، ثم نزل قوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا سعد وأمره أن يعطي البنتين الثلثين وللمرأة الثمن وله ما بقي } .

وفي الحديث المعروف أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه سئل عن فريضة فيها بنت وابنة ابن وأخ فجعل للابنة النصف وللأخ ما بقي فبلغ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين والباقي للأخ فهذا دليل على استحقاق البنتين الثلثين بطريق الأولى لأن حال البنتين أقوى من حالة الابنة وابنة الابن والدليل عليه أن حالة التثنية في معنى حالة الجمع لوجود الاجتماع وانضمام أحد الفردين إلى الآخر ، ولا معنى في الجمع سوى هذا ومن حيث الحكم الإمام يتقدم على المثنى كما يتقدم على الجماعة وإليه إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { الاثنان فما فوقهما جماعة } وقيل في تأويل قوله تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين } أي اثنتين فما فوقهما وكلمة فوق صلة فيه كما في قوله تعالى { فاضربوا فوق الأعناق } يعني مع الأعناق مع أنا قد سلمنا أن في هذا اللفظ بيان نصيب الثالث والتعليق بالشرط عندنا لا يوجب نفي الحكم عند عدم الشرط بل يجوز أن يثبت الحكم بدليل آخر ، وقد أثبتنا بإشارة النص أن للبنتين الثلثين كما قررنا فإن اختلط الذكور بالإناث من الأولاد فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين بالنص واستدلالا بميراث الإخوة فقد قال الله تعالى { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } والأولاد أقرب [ ص: 141 ] من الإخوة وأولاد الابن يقومون مقام أولاد الصلب عند عدم أولاد الصلب في جميع ما ذكرنا لقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } واسم الأولاد يتناول أولاد الابن مجازا قال الله تعالى { يا بني آدم } .

وعند نزول الآية لم يكن بقي أحد من صلب آدم عليه السلام وقال ابن عباس رضي الله عنه لرجل أي أب لك أكبر فتحير الرجل ولم يفهم ما قال له فتلا ابن عباس قوله عز وجل { يا بني آدم } وجعل يقول من كنت ابنه فهو أبوك فإن اجتمع أولاد الصلب وأولاد الابن فإن كان في أولاد الصلب ذكر فلا شيء لأولاد الابن ذكورا كانوا ، أو إناثا أو مختلطين لأن الذكر من أولاد الصلب مستحق لجميع المال باعتبار حقيقة الاسم ، وعند العمل بالحقيقة يسقط اعتبار المجاز فإن الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد في حالة واحدة متعذر والدليل على أن الاسم يتناول أولاد الابن مجازا أنه يستقيم نفيه عنه بإثبات غيره فيقال ليسوا بنيه ولكنهم بنو ابنه ، وهذا حد المجاز مع الحقيقة لأنه لا يمكن نفي الحقيقة ويمكن نفي المجاز بإثبات غيره والدليل عليه أن أولاد الابن يدلون بالابن ويرثون بمثل نسبه فيحجبون به كالأجداد بالأب والجدات بالأم بخلاف الإخوة لأم فإنهم يرثون مع الأم ، وإن كانوا يدلون بها لأنهم لا يرثون بمثل نسبها فإنها ترث بالأمومة وهم بالأخوة وأيد ما ذكرنا قوله عليه السلام { ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر } وأولى رجل ذكر الابن دون أولاد الابن فإن لم يكن في أولاد الصلب ذكر ، ولا في أولاد الابن ذكر فإن كانت ابنة الصلب واحدة فلها النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين واحدة كانت أو أكثر من ذلك لحديث ابن مسعود وإن كانت ابنة الصلب بنتين فلهما الثلثان ، ولا شيء لبنات الابن لأن حظ البنات الثلثان ، وقد استحق البنتان جميع ذلك فلم يبق من حق البنات شيء لبنات الابن ، وإن لم يكن في أولاد الصلب ذكر وكان في أولاد الابن ذكر فإن انفرد الذكور من أولاد الابن فالباقي بعد نصيب البنات لهم نصفا كان ، أو ثلثا لقوله عليه السلام { ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلأول رجل ذكر } ، ولا يقال بأن هذا جمع بين الحقيقة والمجاز لأن الاسم يتناول أولاد الصلب حقيقة وأولاد الابن مجازا وهذا لأن ما يعتبر فيه الحقيقة لا يعتبر فيه المجاز وهو ما استحقه بنات الصلب .

فأما ما زاد على ذلك فالحقيقة غير معمول بها في استحقاق ذلك ، وإنما يعمل بالمجاز في استحقاق ما لم يثبت فيه الاستحقاق باعتبار الحقيقة فلا يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز فإن اختلط الذكور بالإناث من أولاد الابن فنقول إن كان بنات الصلب بنتين فصاعدا فلهن الثلثان والباقي بين [ ص: 142 ] أولاد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين عند علي وزيد رضي الله عنهما وهو قول جمهور العلماء وكان ابن مسعود يقول الباقي لبني الابن خاصة ، ولا شيء لبنات الابن فإن كانت ابنة الصلب واحدة فلها النصف والباقي بين أولاد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين عند علي وزيد ، وعند عبد الله بن مسعود ينظر إلى المقاسمة والسدس لبنات الابن فأي ذلك كان شرا لهن فلهن ذلك والباقي لبني الابن ويسمى هذا الجنس مسائل الإضرار .

وعلى قول ابن مسعود واحتج في ذلك بالآية فإن الله تعالى اعتبر في ميراث الأولاد أحد الحكمين أما الثلثان للبنات بقوله تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين } وأما القسمة فللذكر مثل حظ الأنثيين بقوله عز وجل { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، وقد وجد أحد الحكمين هنا وهو إعطاء البنات الثلثين فلا يجوز اعتبار الحكم الآخر في هذه الحادثة لأن الجمع بينهما متعذر بالإجماع فلا يبقى لأولاد الابن استحقاق بحكم هذه الآية بعد ما أخذت البنات الثلثين فإنما يثبت الاستحقاق للذكور منهم بقوله عليه السلام فلأولى رجل ذكر ، وإن كانت ابنة الصلب واحدة قد بقي السدس مما يستحقه البنات ، ولكن ذلك لهن عند الانفراد لا عند الاختلاط فلا يعطين إلا الأقل لأنه المتيقن به فلهذا ينظر إلى المقاسمة وإلى السدس فيما يعطى بنات الابن ، ولأن بنات الابن لو انفردن مع الابنتين لم يكن لهن شيء ومع الواحدة من البنات لا يكون لهن إلا السدس ومعلوم أن حالة الانفراد في حكم الاستحقاق أقوى من حالة الاجتماع ، وإنما تصير الأنثى عصبة بالذكر إذا كانت صاحبة فرض عند الانفراد كالبنات والأخوات فأما إذا لم تكن مستحقة شيئا عند الانفراد لم تصر عصبة بالذكر كبنات الإخوة مع بني الإخوة وبنات العم مع بني العم وحجتنا في ذلك أن الذكر مع أولاد الابن يعصب الإناث في درجته في استحقاق جميع المال بالاتفاق وهو ما إذا لم يكن هناك ولد للميت لصلبه فكل ذكر يعصب الأنثى في استحقاق جميع المال بالاتفاق يعصبها في استحقاق ما بقي كالأخ مع الأخوات في درجة واحدة والبنات مع البنين .

وهذا لأن بنات الصلب لما أخذن نصيبهن خرجن من البنين وصار فيما بقي كأنه ليس هناك ابنة ، ويكون الحكم فيما بقي هو الحكم في الجميع إذا لم يكن هناك بنات الصلب وبهذا يتبين أنا لا نجمع بين الحكمين في محل واحد ، وإنما نثبت في كل محل أحد الحكمين ففي الثلثين عملنا بقوله تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين } ، وفيما وراء ذلك عملنا بقوله تعالى { للذكر مثل حظ [ ص: 143 ] الأنثيين } يوضحه أن الذكر من أولاد الابن يعصب الأنثى في درجته في حكم الحرمان وبيانه إذا اجتمع مع الزوج والأبوين ابنة وابنة ابن فإن للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين فإن كان مع ابنة الابن ابن الابن في هذه الصورة لم يكن لها شيء لأنها تصير عصبة به ولم يبق من أصحاب الفرائض شيء فلما كان يعصبها في حكم الحرمان فلأن يعصبها في حكم الاستحقاق كان أولى لأن التعصيب في الأصل للاستحقاق لا للحرمان فإن كان الذكر أولاد الابن دون الأنثى بدرجة فإن اجتمع مع ابنتي الصلب بنت ابن وابن ابن ابن فظاهر المذهب عندنا أن الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وقال بعض المتأخرين إن الباقي للذكر خاصة هنا لأن الأنثى إنما تصير عصبة بذكر في درجتها لا بذكر هو دونها في الدرجة .

( ألا ترى ) أن البنت لا تصير عصبة بابن الابن في ابنة واحدة صلبية وابنة ابن وابن ابن ابن فإنه لا تصير ابنة الابن عصبة بابن الابن . فكذلك مع البنتين لمعنى وهو أن الذكر إذا كان أبعد بدرجة فلو جعل للأنثى التي هي أقرب منه بدرجة عصبة كان الذكر محروما في نفسه لأن في ميراث العصبات الأقرب يقدم على الأبعد ذكرا كان ، أو أنثى ( ألا ترى ) أن الأخت لما صارت عصبة مع البنت كان الباقي لها دون ابن الأخ والعم .

وإذا صار محروما لا يعصب أحدا وجه قولنا أن هذه الأنثى لو كانت في درجة الذكر كانت عصبة به مستحقة معه . فإذا كانت أقرب منه بدرجة كان أولى لأن تأثير القرب في قوة سبب الاستحقاق لا في الحرمان ، وفي هذا بيان أن التعصيب كان لمعنى النظر للأنثى ، ولا يتحقق ذلك في ابنة مع ابن الابن لأن بالتعصيب هناك ينتقص حقها لأنه يصير المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين فنصيب البنت الثلث فلذا جعلناها عصبة بابن الابن وحقها بدون التعصيب النصف وكذلك في حق ابنة الابن مع ابنة واحدة للصلب فإن بالتعصيب هناك بابن ابن الابن لا يزداد نصيبها بحال ، وقد يؤدي إلى حرمانها في بعض الأحوال لأنه إذا كانت البنت الصلبية واحدة فحق ابنة الابن معها السدس دون التعصيب .

ولو عصبنا بنت الابن بابن ابن الابن لا يزداد نصيبها على السدس فإن الباقي من النصف وهو النصف يقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين سهم لبنت الابن وسهمان لابن ابن الابن كما في غير حالة التعصيب . فأما في التعصيب هنا توفير المنفعة على ابنة الابن باعتبار زيادة القرب يوضحه أن من كانت في درجة الذكر هنا تستحق شيئا فالقول بأن الأبعد من البنات يستحق والأقرب يصير محروما بنسبة المحال فلا يصار إليه . فصل

التالي السابق


الخدمات العلمية