الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ، لأن الرخصة كي لا تلزم المعذور مشقة فإذا تحملها التحق [ ص: 310 ] بغير المعذور وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا صام المريض والمسافر بنية واجب آخر يقع عنه لأنه شغل الوقت بالأهم لتحتمه للحال وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العدة . وعنه في نية التطوع روايتان ، والفرق على إحداهما أنه ما صرف الوقت إلى الأهم . قال ( والضرب الثاني ما يثبت في الذمة كقضاء رمضان والنذر المطلق وصوم الكفارة [ ص: 311 ] فلا يجوز إلا بنية من الليل ) لأنه غير متعين فلا بد من التعيين من الابتداء ( والنفل كله يجوز بنية قبل الزوال ) [ ص: 312 ] خلافا لمالك ، فإنه يتمسك بإطلاق ما روينا . ولنا { قوله صلى الله عليه وسلم بعدما كان يصبح غير صائم إني إذا لصائم } ولأن المشروع خارج رمضان هو النفل فيتوقف الإمساك في أول اليوم على صيرورته صوما بالنية على ما ذكرنا ، ولو نوى بعد الزوال لا يجوز . وقال الشافعي : يجوز ويصير صائما من حين نوى إذ هو متجزئ عنده لكونه مبنيا على النشاط ، ولعله ينشط بعد الزوال إلا أن من شرطه الإمساك في أول النهار ، وعندنا يصير صائما من أول النهار لأنه عبادة قهر النفس ، وهي إنما تتحقق بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره .

التالي السابق


( قوله ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم ) أي أنه يتأدى رمضان [ ص: 310 ] منهما بالمطلقة ونية واجب آخر والنفل عندهما ، والوجه ظاهر من الكتاب . ( قوله وعند أبي حنيفة إذا صام المريض والمسافر ) جمع بينهما وهو رواية عنه . والحاصل أن إخراج أبي حنيفة المسافر إذا نوى واجبا آخر بلا اختلاف في الرواية . وله فيه طريقان أحدهما أن نفس الوجوب وإن كان ثابتا في حق المسافر لوجود سببه إلا أن الشارع أثبت له الترخيص بترك الصوم تخفيفا عليه للمشقة ، ومعنى الترخيص أن يدع مشروع الوقت بالميل إلى الأخف ، فإذا اشتغل بواجب آخر كان مترخصا لأن إسقاطه من ذمته أهم من إسقاط فرض الوقت لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لم يؤاخذ بفرض الوقت ، ويؤاخذ بواجب آخر ، وهذا يوجب أنه إذا نوى النفل يقع عن رمضان ، وهو رواية ابن سماعة عنه ، إذ لا يمكن إثبات معنى الترخص بهذه النية ، لأن الفائدة في النفل ليس إلا الثواب ، وهو في الفرض أكثر ، فكان هذا ميلا إلى الأثقل فيلغو وصف النفلية ويبقى مطلق الصوم فيقع عن فرض الوقت .

والثاني : أن انتفاء شرعية الصيامات ليس من حكم الوجوب ، فإن الوجوب موجود في الواجب الموسع بل هو من حكم تعيين هذا الزمان لأداء الفرض ، ولا تعين في حق المسافر ، لأنه مخير بين الأداء والتأخير فصار هذا الوقت في حقه كشعبان فيصح منه أداء واجب آخر كما في شعبان . وهذا الطريق يوجب أنه إذا نوى النفل يقع عما نوى ، وهو رواية الحسن عنه ، وهاتان الروايتان اللتان حكاهما المصنف . وأما إخراج المريض إذا نوى واجبا آخر وجعله كالمسافر ، فهو رواية الحسن عنه ، وهو اختيار صاحب الهداية وأكثر مشايخ بخارى [ ص: 311 ] لأن رخصته متعلقة بخوف ازدياد المرض لا بحقيقة العجز ، فكان كالمسافر في تعلق الرخصة في حقة بعجز مقدر ، وذكر فخر الإسلام وشمس الأئمة أنه يقع عما نوى لأن رخصته متعلقة بحقيقة العجز . قيل : ما قالاه خلاف ظاهر الرواية .

وقال الشيخ عبد العزيز : وكشف هذا أن الرخصة لا تتعلق بنفس المرض بالإجماع لأنه يتنوع إلى ما يضر به الصوم نحو الحميات ووجع الرأس والعين وغيرها ، وما لا يضر به كالأمراض الرطوبية وفساد الهضم وغير ذلك ، والترخص إنما يثبت للحاجة إلى دفع المشقة فيتعلق في النوع الأول بخوف ازدياد المرض ، ولم يشترط فيه العجز الحقيقي دفعا للحرج ، وفي الثاني بحقيقته فإذا صام هذا المريض عن واجب آخر أو النفل ولم يهلك ظهر أنه لم يكن عاجزا فلم يثبت له الترخص فيقع عن فرض الوقت ، وإذا صام ذلك المريض كذلك يقع عما نوى لتعلقها بعجز مقدر ، وهو ازدياد المرض كالمسافر ، فيستقيم جواب الفريقين ، وإلى هذا أشار شمس الأئمة حيث قال : وذكر أبو الحسن الكرخي : أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة رحمه الله ، وهذا سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق الصوم ويخاف منه ازدياد المرض ، فهذا يدلك على صحة ما ذكرنا .

( قوله فلا يجوز إلا بنية من الليل ) ليس بلازم ، بل إن نوى مع طلوع الفجر جاز لأن الواجب قران النية بالصوم لا تقديمها ، كذا في فتاوى قاضي خان ( قوله لأنه غير متعين ) وقد قدمنا أن ثبوت التوقف إنما كان بالنص ومورده كان الواجب المعين فعقل أن ثبوت التوقف بواسطة التعين مع لزوم النية واشتراطها في أداء العبادة إذ الظاهر أنه لا يخلي الزمن الذي وجبت فيه العبادة عن النية وكان هذا رفقا بالمكلف كي لا يتضرر في دينه ودفعا للحرج عنه ما ذكرنا من تقريره ، وغير المعين لم يلزم من اعتبار خلوه عن النية للخلو الخالي عنها وهو الأصل أعني اعتبار الخلو للخلو الخالي ضرر ديني عليه لأنه على التراخي فلا يأثم بعدم صحته لعدم النية فيه فلا موجب للتوقف ، لا يقال توقف في النفل ، وليس فيه الموجب الذي ذكرت بل مجرد طلب الثواب وهو مع إسقاط الفرض ثابت في كل يوم في حق هذه الصيامات فيجب التوقف فيها بالنسبة إليها بل أولى ; لأنا نقول : يمنع منه لزوم كون المعنى ناسخا بالنص ، أعني قوله عليه الصلاة والسلام { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } إذ قد خرج منه الواجب المعين بالنص مقارنا للمعنى الذي عيناه ، وهو لا يتعداه فلو أخرج غير المعين أيضا مع أن النفل قد خرج أيضا بالنص بما ذكرت مما عقلت في إخراج النفل لم يبق تحت العام شيء بالمعنى الذي عينته وهو ممنوع ، ولازمه كون ما عينته في النفل ليس مقصود الشارع من شرعية الصحة في النفل بل مقصوده زيادة تخفيف النفل على تخفيف الواجب حيث اعتبر التوقف فيه لمجرد تحصيل الثواب كما هو المعهود في الصلاة حيث جازت نافلتها على الدابة وجالسا بلا عذر ، بخلاف فريضتها للمعنى الذي قلنا . لا يقال ما عللتم به في المعين قاصر ، وأنتم تمنعون التعليل بالقاصرة .

لأنا نقول ذلك للقياس لا مجرد إبداء معنى هو حكمة المنصوص لأنه إجماع ، والنزاع في المسألة لفظي مبني على تفسير التعليل بما يساوي القياس أو أعم منه لا يشك في هذا ، وقد أوضحناه فيما كتبناه [ على البديع ] ومن فروع لزوم التبييت في غير المعين : لو نوى القضاء من النهار فلم يصح هل يقع عن النفل : في فتاوى النسفي نعم ، ولو أفطر يلزمه القضاء ؟ قيل : هذا إذا علم أن صومه عن القضاء لم يصح بنية من النهار أما إذا لم يعلم فلا يلزم بالشروع كما في [ ص: 312 ] المظنون ( قوله فإنه يتمسك بإطلاق ما روينا ) وهو قوله عليه الصلاة والسلام { لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل } وقد قدمنا الكلام فيه فارجع إليه . ومن فروع النية أن الأفضل النية من الليل في الكل ، ولو وجب عليه قضاء يومين من رمضان واحد الأولى أن ينوي أول يوم وجب علي قضاؤه من هذا الرمضان ، وإن لم يتعين الأول جاز وكذا لو كانا من رمضانين على المختار ، حتى لو نوى القضاء لا غير جاز ، ولو وجبت عليه كفارة فطر فصام أحدا وستين يوما عن القضاء والكفارة ، ولم يتعين يوم القضاء جاز ، وهل يجوز تقديم الكفارة على القضاء ؟ قيل : يجوز وهو ظاهر ، ولو وجب عليه قضاء رمضان سنة كذا فصام شهرا ينوي القضاء عن الشهر الذي عليه ، غير أنه نوى أنه رمضان سنة كذا لغيره .

قال أبو حنيفة رحمه الله : يجزيه . ولو صام شهرا ينوي القضاء عن سنة كذا على الخطإ وهو يظن أنه أفطر ذلك قال : لا يجزيه ، ولو نوى بالليل أن يصوم غدا ثم بدا له في الليل وعزم على الفطر لم يصبح صائما فلو أفطر لا شيء عليه إن لم يكن رمضان ، ولو مضى عليه لا يجزيه لأن تلك النية انتقضت بالرجوع ، ولو قال : نويت صوم غد إن شاء الله تعالى ، فعن الحلواني : يجوز استحسانا لأن المشيئة إنما تبطل اللفظ ، والنية فعل القلب ، ولو جمع في نية واحدة بين صومين نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى .

وإذا اشتبه على الأسير المسلم في دار الحرب رمضان تحرى وصام ، فإن ظهر صومه قبله لم يجزه لأن صحة الإسقاط لا تسبق الوجوب ، وإن ظهر بعده جاز فإن ظهر أنه كان شوالا فعليه قضاء يوم ، فلو كان ناقصا فقضاء يومين ، أو ذا الحجة قضى أربعة لمكان أيام النحر والتشريق فإن اتفق كونه ناقصا عن ذلك الرمضان قضى خمسة ثم قال طائفة من المشايخ : هذا إذا نوى أن يصوم ما عليه من رمضان ، أما إذا نوى صوم أداء لصيام رمضان فلا يصح إلا أن يوافق رمضان ، ومنهم من أطلق الجواز وهو حسن .




الخدمات العلمية