الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء


                                                                                                                                                                                                                                      ويعقب على هذا بفردية التبعة، وعدالة الجزاء، وتوكيد الرجوع إلى الله وحده في نهاية المطاف:

                                                                                                                                                                                                                                      من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون ..

                                                                                                                                                                                                                                      بذلك يتسع صدر المؤمن، ويرتفع شعوره; ويحتمل المساءات الفردية والنزوات الحمقاء من المحجوبين المطموسين، في غير ضعف، وفي غير ضيق. فهو أكبر وأفسح وأقوى. وهو حامل مشعل الهدى للمحرومين من النور، وحامل بلسم الشفاء للمحرومين من النبع، وهو مجزي بعمله، لا يصيبه من وزر المسيء شيء. والأمر لله في النهاية، وإليه المرجع والمآب.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3228 ] بعد ذلك يتحدث عن القيادة المؤمنة للبشرية، وتركز هذه القيادة أخيرا في الرسالة الإسلامية; فيشير إلى اختلاف بني إسرائيل في كتابهم، بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة. وانتهاء راية القيادة والحكم إلى صاحب الدعوة الأخيرة. هذا وهو بعد في مكة . والدعوة بعد مطاردة محاصرة. ولكن طبيعتها هي هي منذ نشأتها، ومهمتها هي مهمتها:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على العالمين. وآتيناهم بينات من الأمر، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم. إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين. هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      كانت القيادة - قبل الإسلام - لبني إسرائيل. كانوا هم أصحاب عقيدة السماء التي اختارها الله لتلك الفترة من التاريخ. ولا بد للبشر من قيادة مستمدة من السماء. فالأرض قيادتها هوى أو جهل أو قصور. والله خالق البشر هو وحده الذي يشرع لهم شريعته مبرأة من الهوى فكلهم عباده، مبرأة من الجهل والقصور فهو الذي خلقهم وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ..

                                                                                                                                                                                                                                      فكان فيهم التوراة شريعة الله. وكان فيهم الحكم لإقامة الشريعة. وكان فيهم النبوة بعد رسالة موسى وكتابه للقيام على الشريعة والكتاب. وكثر فيهم الأنبياء وتتابعوا فترة طويلة نسبيا في التاريخ.

                                                                                                                                                                                                                                      ورزقناهم من الطيبات ..

                                                                                                                                                                                                                                      فكانت مملكتهم ونبواتهم في الأرض المقدسة، الطيبة، الكثيرة الخيرات بين النيل والفرات.

                                                                                                                                                                                                                                      وفضلناهم على العالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكان تفضيلهم على أهل زمانهم بطبيعة الحال; وكان مظهر هذا التفضيل الأول اختيارهم للقيادة بشريعة الله; وإيتاءهم الكتاب والحكم والنبوة:

                                                                                                                                                                                                                                      وآتيناهم بينات من الأمر ..

                                                                                                                                                                                                                                      فكان ما أوتوه من الشريعة بينا حاسما فاصلا، لا غموض فيه ولا لبس ولا عوج ولا انحراف; فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاختلاف في هذا الشرع البين كما وقع منهم; وما كان هذا عن غموض في الأمر، ولا كان عن جهل منهم بلصحيح من الحكم:

                                                                                                                                                                                                                                      فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنما كان ذلك عن تحاسد بينهم، ونزاع وظلم، مع معرفة الحق والصواب:

                                                                                                                                                                                                                                      بغيا بينهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبذلك انتهت قيادتهم في الأرض، وبطل استخلافهم وأمرهم بعد ذلك إلى الله يوم القيامة:

                                                                                                                                                                                                                                      إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم كتب الله الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد، يرد إلى شريعة الله استقامتها، وإلى قيادة السماء نصاعتها; ويحكم شريعة الله لا أهواء البشر في هذه القيادة:

                                                                                                                                                                                                                                      ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3229 ] وهكذا يتمحض الأمر. فإما شريعة الله. وإما أهواء الذين لا يعلمون. وليس هنالك من فرض ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة; وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون!

                                                                                                                                                                                                                                      والله - سبحانه - يحذر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون، فهم لا يغنون عنه من الله شيئا. وهم يتولون بعضهم بعضا. وهم لا يملكون أن يضروه شيئا حين يتولى بعضهم بعضا، لأن الله هو مولاه:

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض. والله ولي المتقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعين سبيل صاحب الدعوة وتحدده، وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل:

                                                                                                                                                                                                                                      ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف، وما عداها أهواء منبعها الجهل. وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها، ويدع الأهواء كلها. وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء. فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة. وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض. وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحا عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه. ولكنهم أضعف من أن يؤذوه. والله ولي المتقين. وأين ولاية من ولاية؟ وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضا من صاحب شريعة يتولاه الله. ولي المتقين؟

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقيبا على هذا البيان الحاسم الجازم، يتحدث عن اليقين، وعما في هذا القول وأمثاله في القرآن من تبصرة وهدى ورحمة لأهل اليقين:

                                                                                                                                                                                                                                      هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة. فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور. وهو بذاته هدى. وهو بذاته رحمة.. ولكن هذا كله يتوقف على اليقين. يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك، ولا يخالطها قلق، ولا تتسرب إليها ريبة. وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه، فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد. وعندئذ يبدو له الطريق واضحا، والأفق منيرا، والغاية محددة، والنهج مستقيما. وعندئذ يصبح هذا القرآن له نورا وهدى ورحمة بهذا اليقين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعقب على الحديث عن ولاية الظالمين بعضهم لبعض وولاية الله للمتقين; وعن طبيعة هذا القرآن بالقياس إلى المتقين، وأنه بصائر وهدى ورحمة لأهل اليقين. يعقب على هذا الحديث بالتفرقة الحاسمة بين حال الذين يجترحون السيئات وحال الذين يعملون الصالحات وهم مؤمنون. ويستنكر أن يسوى بينهم في الحكم، وهم مختلفون في ميزان اله. والله قد أقام السماوات والأرض على أساس الحق والعدل; والحق أصيل في تصميم هذا الكون.

                                                                                                                                                                                                                                      أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات. سواء محياهم ومماتهم. ساء ما يحكمون. وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3230 ] ويجوز أن يكون الحديث هنا عن أهل الكتاب، الذين انحرفوا عن كتابهم، واجترحوا السيئات، وظلوا يحسبون أنفسهم في صفوف المؤمنين، ويجعلون أنفسهم أكفاء للمسلمين الذين يعملون الصالحات، أندادا لهم في تقدير الله سواء في الحياة أو بعد الممات. أي: عند الحساب والجزاء.. كما يجوز أن يكون حديثا عاما بقصد بيان قيم العباد في ميزان الله. ورجحان كفة المؤمنين أصحاب العمل الصالح; واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات، سواء في الحياة أو في الممات. ومخالفة هذا للقعدة الثابتة الأصيلة في بناء الوجود كله. قاعدة الحق. الذي يتمثل في بناء الكون، كما يتمثل في شريعة الله. والذي يقوم به الكون كما تقوم به حياة الناس. والذي يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين في جميع الأحوال; وفي مجازاة كل نفس بما كسبت من هدى أو ضلال; وفي تحقيق العدل للناس أجمعين: وهم لا يظلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى أصالة الحق في بناء الكون، وارتباطه بشريعة الله للبشر، وحكمه عليهم يوم الحساب والجزاء، معنى يتكرر في القرآن الكريم، لأنه أصل من أصول هذه العقيدة، تجتمع عليه مسائلها المتفرقة، وترجع إليه في الأنفس والآفاق، وفي ناموس الكون وشريعة البشر. وهو أساس " فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان "

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب. الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده. فيضل ضلالا لا اهتداء بعده، والعياذ بالله:

                                                                                                                                                                                                                                      أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة؟ فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجا عجيبا للنفس البشرية حينتترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها، وتخضع له، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها. وتقيمه إلها قاهرا لها، مستوليا عليها، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول. يرسم هذه الصورة ويعجب منها في استنكار شديد:

                                                                                                                                                                                                                                      أفرأيت من اتخذ إلهه هواه؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      أفرأيته؟ إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب! وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى. فما أبقى في قلبه مكانا للهدى وهو يتعبد هواه المريض!

                                                                                                                                                                                                                                      وأضله الله على علم ..

                                                                                                                                                                                                                                      على علم من الله باستحقاقه للضلالة. أو على علم منه بالحق، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلها يطاع. وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه:

                                                                                                                                                                                                                                      وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ..

                                                                                                                                                                                                                                      فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور; وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى. وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم.

                                                                                                                                                                                                                                      فمن يهديه من بعد الله؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3231 ] والهدى هدى الله. وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة. فذلك من شأن الله، الذي لا يشاركه فيه أحد، حتى رسله المختارون.

                                                                                                                                                                                                                                      أفلا تذكرون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن تذكر صحا وتنبه، وتخلص من ربقة الهوى، وعاد إلى النهج الثابت الواضح، الذي لا يضل سالكوه..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية