الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5429 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهري عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان فقال ليس بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها من الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة قال علي قال عبد الرزاق مرسل الكلمة من الحق ثم بلغني أنه أسنده بعده

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثالث قوله : ( عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة ) كأن هذا مما فات الزهري سماعه من عروة فحمله عن ولده عنه ، مع كثرة ما عن الزهري عن عروة ، وقد وصفه الزهري بسعة العلم ، ووقع في رواية معقل بن عبيد الله عند مسلم عن الزهري " أخبرني يحيى بن عروة أنه سمع عروة " وكذا للمصنف في التوحيد من طريق يونس ، وفي الأدب من طريق ابن جريج كلاهما عن ابن شهاب ، ولم أقف ليحيى بن عروة في البخاري إلا على هذا الحديث ، وقد روى بعض هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود عن عروة وتقدم موصولا في بدء الخلق ، وكذا هشام بن عروة عن أبيه به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) في رواية الكشميهني " سأل ناس - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وكذا هو في رواية يونس ، وعند مسلم من رواية معقل مثله ومن رواية معقل مثل الذي قبله ، وقد سمي ممن سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه " قال قلت يا رسول الله ، أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان ، فقال : لا تأتوا الكهان " الحديث . وقال الخطابي هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية ، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات ، ثم تعرض إلى مناسبة ذكر الشعراء بعد ذكرهم في قوله - تعالى - : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال ليس بشيء ) في رواية مسلم " ليسوا بشيء " ، وكذا في رواية يونس في التوحيد ، وفي نسخة [ ص: 230 ] " فقال لهم ليسوا بشيء " أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه ، والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه : ما عمل شيئا ، قال القرطبي : كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم ، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية ، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم ، وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا ) في رواية يونس " فإنهم يتحدثون " هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله " ليسوا بشيء " لأنه فهم أنهم لا يصدقون أصلا فأجابه - صلى الله عليه وسلم - عن سبب ذلك الصدق ، وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تلك الكلمة من الحق ) كذا في البخاري بمهملة وقاف أي الكلمة المسموعة التي تقع حقا ، ووقع في مسلم " تلك الكلمة من الجن " قال النووي : كذا في نسخ بلادنا بالجيم والنون ، أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن . قلت : التقدير الثاني يوافق رواية البخاري ، قال النووي : وقد حكى عياض أنه وقع - يعني في مسلم - بالحاء والقاف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يخطفها الجني ) كذا للأكثر ، وفي رواية السرخسي " يخطفها من الجني " أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه ، ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الأخذ بسرعة . وفي رواية الكشميهني " يحفظها " بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والأول هو المعروف والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فيقرها ) بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها ، تقول قررت على رأسه دلوا إذا صببته ، فكأنه صب في أذنه ذلك الكلام ، قال القرطبي : ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه بصوت ، يقال قر الطائر إذا صوت انتهى . ووقع في رواية يونس المذكورة فيقرقرها أي يرددها ، يقال قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها ، قال الخطابي : ويقال أيضا قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا ، وإذا رجعت في صوتها قيل قرقرت قرقرة وقرقريرة ، قال : والمعنى أن الجني إذا ألقى الكلمة لوليه تسامع بها الشياطين فتناقلوها كما إذا صوتت الدجاجة فسمعها الدجاج فجاوبتها . وتعقبه القرطبي بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له زمزمة ويرجعه له ، فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط ، وقد تقدم شيء من ذلك في أواخر الجنائز في قصة ابن صياد وبيان اختلاف الرواة في قوله " في قطيفة له فيها زمزمة " وأطلق على الكاهن ولي الجني لكونه يواليه أو عدل عن قوله الكاهن إلى قوله وليه للتعميم في الكاهن وغيره ممن يوالي الجن . قال الخطابي بين - صلى الله عليه وسلم - أن إصابة الكاهن أحيانا إنما هي لأن الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع ، فربما أصاب نادرا وخطأه الغالب ، وقوله في رواية يونس كقرقرة الدجاجة يعني الطائر المعروف ، ودالها مثلثة والأشهر فيها الفتح ، ووقع في رواية المستملي الزجاجة بالزاي المضمومة وأنكرها الدارقطني وعدها في التصحيف ، لكن وقع في حديث الباب من وجه آخر تقدم في " باب ذكر الملائكة " في كتاب بدء الخلق فيقرها في أذنه كما تقر القارورة وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة إذا حلت على شيء أو ألقي فيها شيء . وقال القابسي : المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني إلى الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا ، وقال الخطابي : المعنى أنه يطبق به كما يطبق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ فيه منها ما فيها . وأغرب شارح " المصابيح " التوربشتي فقال : الرواية بالزاي [ ص: 231 ] أحوط لما ثبت في الرواية الأخرى كما تقر القارورة واستعمال قر في ذلك شائع بخلاف ما فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور ولم نجد له شاهدا في كلامهم ، فدل على أن الرواية بالدال تصحيف أو غلط من السامع . وتعقبه الطيبي فقال : لا ريب أن قوله " قر الدجاجة " مفعول مطلق ، وفيه معنى التشبيه ، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها ، وهذا مشاهد ، ترى الديك إذا رأى شيئا ينكره يقرقر فتسمعه الدجاج فتجتمع وتقرقر معه ، وباب التشبيه واسع لا يفتقر إلى العلاقة ، غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل الطير كما قال الله - تعالى - فتخطفه الطير فيكون ذكر الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول الترشيح في الاستعارة . قلت : ويؤيده دعوى الدارقطني وهو إمام الفن أن الذي بالزاي تصحيف ، وإن كنا ما قبلنا ذلك فلا أقل أن يكون أرجح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فيخلطون معها مائة كذبة ) في رواية ابن جريج أكثر من مائة كذبة وهو دال على أن ذكر المائة للمبالغة لا لتعيين العدد ، وقوله كذبة هنا بالفتح وحكي الكسر ، وأنكره بعضهم لأنه بمعنى الهيئة والحالة وليس هذا موضعه ، وقد أخرج مسلم في حديث آخر أصل توصل الجني إلى الاختطاف فأخرج من حديث ابن عباس " حدثني رجال من الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : ما كنتم تقولون إذا رمي مثل هذا في الجاهلية ؟ قالوا : كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم ، فقال : إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته . ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء الدنيا فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم حتى يصل إلى السماء الدنيا ، فيسترق منه الجني ، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يزيدون فيه وينقصون وقد تقدم في تفسير سبأ وغيرها بيان كيفيتهم عند استراقهم ، وأما ما تقدم في بدء الخلق من وجه آخر عن عروة عن عائشة أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فيحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على السحاب ، ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الأرض تسمع منهم الشياطين ، أو المراد الملائكة الموكلة بإنزال المطر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال علي قال عبد الرزاق مرسل الكلمة من الحق ، ثم بلغني أنه أسنده بعد ) علي هذا هو ابن المديني شيخ البخاري فيه ، ومراده أن عبد الرزاق كان يرسل هذا القدر من الحديث ، ثم أنه بعد ذلك وصله بذكر عائشة فيه ، وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد والإسماعيلي من طريق فياض بن زهير ، وأبو نعيم من طريق عباس العنبري ثلاثتهم عن عبد الرزاق موصولا كرواية هشام بن يوسف عن معمر ، وفي الحديث بقاء استراق الشياطين السمع ، لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية وفيه النهي عن إتيان الكهان قال القرطبي : يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم ، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : إيراد باب الكهانة كتاب الطب لمناسبته لباب السحر لما يجمع بينهما من مرجع كل منهما للشياطين ، وإيراد باب السحر في كتاب الطب لمناسبته ذكر الرقى وغيرها من الأدوية المعنوية ، فناسب ذكر الأدواء التي تحتاج إلى ذلك ، واشتمل كتاب الطب على الإشارة للأدوية الحسية كالحبة السوداء والعسل ثم على [ ص: 232 ] الأدوية المعنوية كالرقى بالدعاء والقرآن . ثم ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية المعنوية في دفعها كالسحر ، كما ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية الحسية في دفعها كالجذام والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية