الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

في هذه الآية أربعة أوجه من التأويل:

أحدها أن يكون مقصد الآية تشنيع وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين، واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ، ويريد بقوله سبحانه: "لا ينكح" أي لا يطأ، فيكون النكاح بمعنى الجماع، وردد القصة مبالغة وأخذا من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشرك والمشركة من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى، فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين أو من هي أخس منها من المشركات، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء، وأنكر الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وليس كما قال، وفي القرآن حتى تنكح زوجا غيره ، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير ، وابن عباس ، وعكرمة ، ولكن غير مخلص ولا مكمل.

والثاني أن تكون الآية نزلت في قوم مخصوصين، وهذا قول روي معناه عن عبد الله بن عمر ، وعن ابن عباس وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، قالوا: وهم قوم كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنى، فأرادوا لفقرهم- زواج أولئك النسوة; إذ كان من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن، فنزلت الآية بسببهن، والإشارة بـ "الزاني" إلى أحد أولئك، حمل عليه اسم الزنى الذي كان في الجاهلية، وقوله تعالى: لا ينكح أي لا يتزوج، وفي الآية -على هذا التأويل- معنى التفجع عليهم، وفي ذلك توبيخ كأنه يقول: أي مصاب؟ الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، أي: تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم. ويرد على هذا التأويل الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك، ثم قوله: [ ص: 337 ] وحرم ذلك على المؤمنين أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم أهل هذا التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أشهرهن عناق البغي ، وكان الذي هم بتزوجها دلدل ، كان يستخرج ضعفة المسلمين من مكة سرا، ففطنت له ودعته إلى نفسها فأبى الزنى وأراد التزويج، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، ولما دعته وأبى قالت له: أنى تبرز؟ والله لأفضحنك؟، وذكر الطبري أن من البغايا المذكورات أم مهزول جارية السائب المخزومي ، ويقال فيها: أم مهزوم ، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية ، وحنة القبطية جارية العاصي بن وائل ، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن سباق بن عبد الدار ، وجلالة جارية سهيل بن عمرو ، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وشريفة جارية زمعة بن الأسود ، وفرسة جارية هشام بن ربيعة ، وقريبا جارية هلال بن أنس ، وغيرهن ممن كانت لهن رايات تعرف منازلهن بها، وكذلك كان بالمدينة إماء عبد الله بن أبي وغيره مشهورات.

وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في سياق هذا التأويل: كانت بيوت في الجاهلية تسمى المواخير، كانوا يؤجرون فيها فتياتهم، وكانت معلومة للزنى، فحرم الله ذلك على المؤمنين .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ويحتمل أن يكون هذا الكلام في التأويل الذي ذكرته قبل هذا. وواحد المواخير: [ ص: 338 ] ماخور، ومنه قول بعض المحدثين:


في كل واد هبطنا فيه دسكرة في كل نشز صعدنا فيه ماخور

والتأويل الثالث ذكره الزجاج وغيره عن الحسن ، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله تعالى، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة، وروي أن محدودا تزوج غير محدودة فرد علي بن أبي طالب نكاحهما، وقوله تعالى: وحرم ذلك على المؤمنين يريد الزنى، وحكى الزهراوي في ذلك حديثا من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله ، وهذا حديث لا يصح، وقول فيه نظر، وإدخال "المشرك" في الآية يرده، وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت "المشركة" بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك.

والرابع قد روي عن سعيد بن المسيب ، وذلك أنه قال: هذا حكم كان في الزناة عامة، ألا يتزوج زان إلا زانية، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم ، وروي ترتيب هذا النسخ أيضا عن مجاهد ، إلا أنه قال: إن التحريم كان في أولئك النفر خاصة لا في الزناة عامة، ذكر ذلك عنهما أبو عبيدة في ناسخه، وذكر عن مجاهد أنه قال: حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وذكر "الإشراك" في الآية يضعف هذه المناحي.

وقرأ أبو البرهشيم : "وحرم الله ذلك على المؤمنين".

واختلف فيمن زنى بامرأة ثم أراد نكاحها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وطاوس ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، والحسن ، [ ص: 339 ] وعكرمة ، وابن عباس ، ومالك ، والثوري ، والشافعي . ومنعه ابن مسعود ، والبراء بن عازب ، وعائشة ، وقالوا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا.

التالي السابق


الخدمات العلمية