الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم

                                                                                                                                                                                                لما قضي الأمر : لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار، وروي أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا في الأشقياء [ ص: 375 ] من الجن والإنس فيقول ذلك، إن الله وعدكم وعد الحق : وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفي لكم بما وعدكم، ووعدتكم : خلاف ذلك، فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان : من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها، إلا أن دعوتكم : إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولك: ما تحيتهم إلا الضرب، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ; حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به.

                                                                                                                                                                                                قلت: لو كان هذا القول منه باطلا، لبين الله بطلانه، وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام: ألا ترى إلى قوله: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم كيف أتى فيه بالحق والصدق، وفي قوله: وما كان لي عليكم من سلطان ، وهو مثل قول الله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [الحجر: 42]، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي : لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه، والإصراخ: الإغاثة، وقرئ: "بمصرخي" بكسر الياء وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول [من الرجز]:


                                                                                                                                                                                                قال لها هل لك ياتا في؟ ... قالت له ما أنت بالمرضي



                                                                                                                                                                                                [ ص: 376 ] وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء ؟

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح; لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحركت بالكسر على الأصل.

                                                                                                                                                                                                قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات، "ما" في: "بما أشركتمون": مصدرية، و من قبل : متعلقة بـ"أشركتموني"، يعني: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا، كقوله تعالى: ويوم القيامة يكفرون بشرككم [فاطر: 14]، ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم [الممتحنة: 4]، وقيل: "من قبل": يتعلق بكفرت، و"ما" موصولة، أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه، وهو الله عز وجل، تقول: شركت زيدا، فإذا نقلت بالهمزة قلت: أشركنيه فلان، أي: جعلني له شريكا، ونحو "ما" هذه "ما" في قولهم: سبحان ما سخركن لنا، ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها، وهذا آخر قول إبليس، وقوله: إن الظالمين : قول الله -عز وجل- ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهما والاستعداد لما لا بد لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم، وقرئ: "فلا يلوموني" بالياء على طريقة الالتفات، كقوله تعالى: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم [يونس: 22].

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية