الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله ولو دفع بتحر فبان أنه غني أو هاشمي أو كافر أو أبوه أو ابنه صح ولو عبده أو مكاتبه لا ) لحديث البخاري { لك ما نويت يا زيد ولك ما أخذت يا معن } حين دفعها زيد إلى ولده معن وليس المراد بالتحري الاجتهاد بل غلبة الظن بأنه مصرف بعد الشك في كونه مصرفا وإنما قلنا هذا ; لأنه لو دفع باجتهاد دون ظن أو بغير اجتهاد أصلا أو بظن أنه بعد الشك ليس بمصرف ثم تبين المانع فإنه لا يجزئه وكذا لو لم يتبين شيء فهو على الفساد حتى يتبين أنه مصرف ، ولو دفع إلى من يظن أنه ليس بمصرف ثم يتبين أنه مصرف يجزئه

                                                                                        والفرق بين هذا وبين من صلى باجتهاد إلى جهة يظن أنها ليست القبلة حيث لا تجزئه الصلاة ، وإن ظهر أنها القبلة بل قال الإمام يخشى عليه الكفر أن الصلاة الفرض بغير القبلة معصية ، والمعصية لا تنقلب طاعة ودفع المال إلى غير الفقير قربة يثاب عليها وقيدنا بكونه بعد الشك ; لأنه لو دفعها [ ص: 267 ] ولم يخطر بباله أنه مصرف أم لا فهو على الجواز إلا إذا تبين أنه غير مصرف ; لأن الظاهر أنه صرف الصدقة إلى محلها حيث نوى الزكاة عند الدفع والظاهر لا يبطل إلا باليقين حتى لو شك فيه بعد ذلك ، ولم يظهر له شيء لا تلزمه الإعادة ; لأن الظاهر الأول لا يبطل بالشك وليس له أن يسترد ما دفعه إذا تبين أنه ليس بمصرف ووقع تطوعا كذا في البدائع واختلف المشايخ في كونه يطيب للفقير وعلى القول بأنه لا يطيب قيل : يتصدق به لخبثه ، وقيل : يرده على الدافع كذا في معراج الدراية وأطلق الكافر فشمل الذمي والحربي وقد صرح بهما في المبتغى بالمعجمة ، وفي المحيط إذا ظهر أنه حربي فيه روايتان والفرق على إحداهما أنه لم توجد صفة القربة أصلا

                                                                                        والحق المنع فقد قال في غاية البيان معزيا إلى التحفة وأجمعوا أنه إذا ظهر أنه حربي ، ولو مستأمنا لا يجوز ، وكذا في معراج الدراية معللا بأن صلته لا تكون برا شرعا ; ولذا لم يجز التطوع إليه فلم يقع قربة ، ولا يخفى أن أحد الزوجين كالأصول والفروع وأن المدبر وأم الولد داخلان تحت العبد والمستسعى كالمكاتب عنده وعندهما حر مديون كذا في البدائع وقيد بالزكاة ; لأنه لو أوصى بثلث ماله للفقراء فأعطاهم الوصي ثم تبين أنهم أغنياء لم يجز ، وهو ضامن بالاتفاق ; لأن الزكاة حق الله - تعالى - فاعتبر فيها الوسع ، والوصية حق العباد فاعتبر فيها الحقيقة ألا ترى أن النائم إذا أتلف شيئا يضمن ، ولا يأثم كذا في معراج الدراية

                                                                                        وقياسه أن الوصي بشراء دار ليوقفها إذا اشترى ، ونقد الثمن ثم ظهر أنها وقف الغير وضاع الثمن أن يضمن الوصي ، وهي واقعة في زماننا ولأنه اختلط أواني طاهرة بنجسه أو ثياب كذلك وكانت الغلبة للطاهر فتحرى فيها ثم تبين خطؤه يعيد الصلاة أو قضى القاضي باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه بطل قضاؤه ، وهو الذي قاس عليه أبو يوسف مسألة الكتاب ، والفرق لهما أن العلم بالثوب الطاهر والماء الطاهر والنص ممكن فلم يأت بالمأمور به قيدنا بكون الغلبة للطاهر ; لأن الغلبة لو كانت للنجس أو استويا لا يتحرى بل يتيمم كذا في المعراج ، وفي النهاية جعل هذا الحكم مختصا بالأواني أما الثياب النجسة إذا اختلطت بالطاهرة فإنه يتحرى مطلقا ، ولو كانت النجسة أكثر أو مساوية وتبعه في فتح القدير وقد أخذاه من مبسوط السرخسي من كتاب التحري

                                                                                        وفرق بينهما بأن الضرورة لا تتحقق في الأواني ; لأن التراب طهور له بدل عند العجز عن الماء الطاهر فلا يضطر إلى التحري للوضوء عند غلبة النجاسة لما أمكنه إقامة الفرض بالبدل حتى لو تحققت الضرورة للشرب عند العطش وعدم الماء الطاهر يجوز التحري للشرب في مسألة الثياب الضرورة مست للتحري ; لأنه ليس للستر بدل [ ص: 268 ] يتوصل به إلى إقامة الفرض يوضحه أن في مسألة الأواني لو كانت كلها نجسة لا يؤمر بالتوضؤ بها ولو فعل لا تجوز صلاته فكذا إذا كانت الغلبة له ، وفي مسألة الثياب ، وإن كانت الكل نجسة يؤمر بالصلاة في بعضها فكذا إذا كانت الغلبة لها ثم اعلم أن التحري يجري في مسائل منها الزكاة كما قدمناه ، ومنها القبلة وقد تقدم في الصلاة ، ومنها مسائل المساليخ المختلطة بالميتة ففي حالة الاضطرار للأكل يجوز التحري في الفصول كلها ، وفي حالة الاختيار لا يجوز التحري إلا إذا كان الحلال غالبا ، ومنها مسألة الزيت إذا اختلط بودك الميتة

                                                                                        فإن كان المحرم غالبا أو مساويا فإنه لا يجوز الانتفاع به أصلا للأكل ، ولا غيره ، وإن كان الحلال غالبا ففي حالة الاضطرار يجوز الأكل والانتفاع به ، وفي حالة الاختيار يحرم الأكل وتناوله ويجوز الانتفاع به من حيث الاستصباح ودبغ الجلود ، ومنها مسألة الموتى إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار فإن كانت الغلبة لموتى المسلمين فإنه يصلى عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين ، وإن غلب موتى الكفار أو تساويا لا يصلى على أحد منهم إلا من يعلم أنه مسلم بالعلامة ، وفي ظاهر الرواية يدفنون في مقابر المشركين ، ومنها مسألتا الأواني المختلطة والثياب المختلطة وقد تقدمتا

                                                                                        وأما التحري في الفروج فلا يجوز بحال حتى لو أعتق واحدة من جواريه بعينها ثم نسيها لم يسعه التحري للوطء ، ولا للبيع ومن أراد معرفة الدلائل والفرق بين المسائل وزيادة التعريفات في مسائل التحري فعليه بكتاب التحري من المبسوط أول الجزء الرابع ، واعلم أن التحري في اللغة الطلب والابتغاء ، وهو والتوخي سواء إلا أن لفظ التوخي يستعمل في المعاملات والتحري في العبادات ، وفي الشريعة طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته ، وهو غير الشك والظن فالشك أن يستوي طرفا العلم والجهل ، والظن ترجح أحدهما من غير دليل ، والتحري ترجح أحدهما بغالب الرأي ، وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم ، وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ويلحق بالتحري في مسألة الزكاة ما لو كان المدفوع إليه جالسا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله فأعطاه فهذه الأسباب بمنزلة التحري كذا في المبسوط أيضا يعني أنه لو ظهر أنه غني لا إعادة عليه .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : باجتهاد بدون ظن ) أي بأن اجتهد ولم يترجح عنده شيء ، وقوله : أو بغير اجتهاد أصلا أي بعد الشك بدليل قوله الآتي ; لأنه لو دفعها لم يخطر بباله إلخ ، وقوله : أو بظن أنه بعد الشك ليس بمصرف ، الظاهر أن قوله بعد الشك من تصرف النساخ ; إذ لا موقع لذكره هنا ومحله أن يذكر عقب قوله : أصلا فتصير العبارة هكذا أو بغير اجتهاد أصلا بعد الشك أو بظن أنه ليس بمصرف إلخ ( قوله : ودفع المال إلى غير الفقير قربة إلخ ) قال في النهر : كون الإعطاء لا يكون به عاصيا مطلقا ممنوع فقد صرح الإسبيجابي بأنه إذا غلب على ظنه غناه حرم عليه الدفع ا هـ .

                                                                                        وفيه أنه لا يخلو إما أن يراد بالغني في كلام الإسبيجابي ما هو المتبادر منه ، وهو أن يكون مالك نصاب أولا بأن كان يملك قوت يومه فقط فإن كان الأول فالدفع إليه يكون هبة ، وهي جائزة ، وإن كان الثاني كما حمله عليه في النهر آخر الباب فلا يتوجه المنع به ; لأنه مصرف ، والكلام فيمن ظنه غير مصرف فالدفع إليه يكون هبة كما يأتي آخر [ ص: 267 ] الباب ، وهي مندوبة وقبولها سنة على أن كلام الإسبيجابي الظاهر منه أن المراد به دفع الزكاة وأن المراد بالغني المعتبر ووجه الحرمة حينئذ عدم سقوط الزكاة عنه بهذا الدفع فإذا اجتزأ به يكون مانعا للزكاة والمراد بقولهم في الفرق ودفع المال إلى غير الفقير قربة غير الزكاة كما لا يخفى فأنى يتوجه المنع ( قوله : وأطلق الكافر إلخ ) قال في كفاية البيهقي دفع إلى حربي خطأ ثم تبين جاز على رواية الأصل

                                                                                        وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ، وهو قوله : ا هـ .

                                                                                        قال الأقطع وقال أبو يوسف لا يجوز ، وهو أحد قولي الشافعي وقوله : الآخر مثل قول أبي حنيفة قال في مشكلات خواهر زاده قوله ثم ظهر أنه غني أو هاشمي أو كافر أي ذمي ; لأن الإجماع منعقد أنه لو كان مستأمنا أو حربيا فإنه تجب الإعادة ا هـ .

                                                                                        ونص في المختار على جواز الدفع فيما إذا ظهر أنه حربي ، وإطلاقه في الكنز بقوله : أو كافر من غير تقييد بالذمي يدل على الجواز كذا في شرح الكنز للعلامة ابن الشبلي شيخ المؤلف صاحب البحر ( قوله : وهي واقعة في زماننا ) قال الرملي قد يفرق بين المسألتين بأن الوصي في مسألة المعراج وجدت منه المخالفة حقيقة ; لأنه مأمور بالدفع إلى الفقراء ، وقد أعطى إلى الأغنياء ، وفي الواقعة لم توجد المخالفة حقيقة ; لأن المأمور به شراء دار وظهور أنها وقف لا يوجب المخالفة كالاستحقاق يدل عليه ما في التتارخانية عن نوادر هشام رجل ترك ثلاثة آلاف درهم وأوصى إلى رجل أن يعتق عنه نسمة بألف درهم فاشتراها الوصي بألف وأعتقها ثم استحقت فلا ضمان على الوصي . وإن ظهر أنها حرة فالوصي ضامن ا هـ .

                                                                                        وأيضا دار الوقف تقبل البيع في الجملة حتى فرقوا بين ضم الحر إلى العبد وبين ضم الوقف إلى الملك فسرى البطلان في الأول دون الثاني قال الشارح في البيع الفاسد في مسألة ضم الوقف إلى الملك في الفرق بينها وبين ضم الحر إلى العبد الوقف بعد القضاء ، وإن صار لازما بالإجماع لكنه يقبل البيع بعد لزوم الوقف إما بشرط الاستبدال ، وهو صحيح على قول أبي يوسف المفتى به أو بضعف غلته كما هو قولهما أو بورود غصب عليه ، ولا يمكن انتزاعه فللناظر بيعه كما في فتاوى قاضي خان أو بقضاء قاض حنبلي ببيعه فإن عنده يجوز بيع الوقف ليشتري ببدله ما هو خير منه كما في معراج الدراية فكيف يجعل الوقف كالحر مع وجود هذه الأسباب لبيعه والله - تعالى - الموفق للصواب ا هـ . فتأمل ذلك .




                                                                                        الخدمات العلمية