الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقا أو بقيد ، وهو الذي رآه الطبري . وذك أن حاصل الأمر يقتضي أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية ، وهو التشريع بعينه ، فإن طمأنينة النفس القلب مجردا عن الدليل ، إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعا ، فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار ، وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة وإن كانت معتبرة فقد صار ثم قسم ثالث غير الكتاب والسنة ، وهو غير ما نفاه الطبري وغيره .

                        وإن قيل : إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام . لم تخرج تلك عن [ ص: 666 ] الإشكال الأول ، لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لا بد أن يتعلق به حكم شرعي ، وهو الجواز وعدمه ، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها . فإن كان ذلك عن دليل ، فهو ذلك الأول بعينه ، باق على كل تقدير .

                        والجواب : أن الكلام الأول صحيح . وإنما النظر في تحقيقه .

                        فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين : نظر في دليل الحكم ، ونظر في مناطه ، فأما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة ، أو ما يرجع إليهما من إجماع أو قياس أو غيرهما ، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ، ولا نفي ريب القلب ، إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلا أو غير دليل . ولا يقول أحد ( غير ذلك ) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل ( عليها ) ، أو يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس أن الأمر كما زعموا ، وهو مخالف لإجماع المسلمين . أ

                        وأما النظر في مناط الحكم ، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط ، بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل ، فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد ، بل لا يشترط فيه العلم فضلا : عن درجة الاجتهاد : ألا ترى أن العامي إذا سأل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي : هل تبطل به الصلاة أم لا ؟ فقال العامي : إن كان يسيرا فمغتفر ، وإن كان كثيرا فمبطل ، لم يغتفر في السير إلى أن يحققه له العالم . بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير . فقد انبنى هاهنا الحكم ـ وهو البطلان أو عدمه ـ على ما يقع بنفس

                        العامي ، وليس واحدا [ ص: 667 ] من الكتاب أو السنة ، لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلا على الحكم ، وإنما هو مناط الحكم ، فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق ، فهو المطلوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعي .

                        وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة ، وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة ، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير ، فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب ، لأنه نظر في مناط الحكم .

                        فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله ، لأن حليته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه : أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله ، لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية ، فتحقق مناطها بالنسبة إليه . وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه ، واطمأنت إليه نفسه ، لا بحسب الأمر في نفسه . ألا ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ، ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ، فيأكل أحدهما حلالا ويجب على الآخر الاجتناب ، لأنه حرام ؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالا ، لأن أدلة الشرع لا تتناقض أبدا . فإذا فرضنا لحما أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين ، كاختلاط الميتة بالذكية ، واختلاط الزوجة بالأجنبية .

                        فهاهنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة .

                        وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه ، وهي تلك الأحاديث المتقدمة ، كقوله : [ ص: 668 ] دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله : البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك كأنه يقول : إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة ، فالحكم فيه من الشرع بين .

                        وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به . وهو معنى قوله ـ إن صح ـ : استفت قلبك وإن أفتوك فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك .

                        ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك ، لأنه لم يعرض له ما عرض لك .

                        وليس المراد بقوله : وإن أفتوك أي إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك ، فإن هذا باطل ، وتقول على التشريع الحق . وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط .

                        نعم قد لا يكون لك دربة أو أنس لك فيحققه لك غيرك ، وتقلده فيه ، وهذه الصورة خارجة عن الحديث ، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع ، كحد الغنى الموجب للزكاة ، فإنه يختلف باختلاف الأحوال ، فحققه الشارع بعشرين دينارا أو مائتي درهم وأشباه ذلك ، وإنما النظر هنا فيما وكل تحقيقه إلى المكلف .

                        فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل ، وهو تحقيق بالغ . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية