الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
تنبيه

ترتيب وضع السور في المصحف

لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم :

أحدها : بحسب الحروف ، كما في الحواميم ، وثانيها : لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها ; كآخر " الحمد " في المعنى وأول " البقرة " ، وثالثها : للوزن في اللفظ كآخر " تبت " وأول " الإخلاص " ، ورابعها : لمشابهة جملة السورة لجمله الأخرى مثل : والضحى و ألم نشرح .

قال بعض الأئمة : وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية ، والالتجاء إليه في دين الإسلام ، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية .

وسورة " البقرة " تضمنت قواعد الدين ، و " آل عمران " مكملة لمقصودها ; فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم ، و " آل عمران " بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ، ولهذا قرن فيها ذكر المتشابه منها بظهور الحجة والبيان ، فإنه نزل أولها في آخر الأمر لما قدم وفد نجران النصارى ، وآخرها يتعلق بيوم أحد . والنصارى تمسكوا بالمتشابه ، فأجيبوا عن شبههم بالبيان ، [ ص: 359 ] ويوم أحد تمسك الكفار بالقتال فقوبلوا بالبيان ، وبه يعلم الجواب لمن تتبع المتشابه من القول والفعل ، وأوجب " الحج " في " آل عمران " ، وأما في " البقرة " فذكر أنه مشروع وأمر بتمامه بعد الشروع فيه ، ولهذا ذكر البيت والصفا والمروة ، وكان خطاب النصارى في " آل عمران " أكثر ، كما أن خطاب اليهود في " البقرة " أكثر ; لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم ، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر ; كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ; ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء ، فخوطب بها جميع الناس ، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب و " المؤمنين " ، فخوطبوا : يا أهل الكتاب ، يا بني إسرائيل .

وأما سورة " النساء " فتتضمن جميع أحكام الأسباب التي بين الناس ; وهي نوعان : مخلوقة لله تعالى ، ومقدورة لهم ; كالنسب والصهر ، ولهذا افتتحها الله بقوله : ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ( النساء : 1 ) ، ثم قال : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وبين الذين يتعاهدون ويتعاقدون فيما بينهم ، وما تعلق بذلك من أحكام الأموال والفروج والمواريث . ومنها العهود التي حصلت بالرسالة والمواثيق التي حصلت بالرسالة ، والتي أخذها الله على الرسل .

وأما " المائدة " فسورة العقود ، وبهن تمام الشرائع ; قالوا : وبها تم الدين فهي سورة التكميل ، بها ذكر الوسائل ، كما في " الأنعام " و " الأعراف " ذكر المقاصد ، كالتحليل والتحريم ، كتحريم الدماء والأموال وعقوبة المعتدين . وتحريم الخمر من تمام حفظ العقل والدين ، وتحريم الميتة والدم والمنخنقة ، وتحريم الصيد على المحرم من تمام الإحرام ، وإحلال الطيبات من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كالوضوء والحكم بالقرآن ، فقال تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ( المائدة : 48 ) وذكر أنه من ارتد عوض الله بخير منه . ولا يزال هذا الدين كاملا ; ولهذا قيل : إنها آخر القرآن نزولا ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها .

وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات : " البقرة " ، و " آل عمران " ، و " النساء " ، و " المائدة " من [ ص: 360 ] أحسن الترتيب ; وهو ترتيب المصحف العثماني ، وإن كان مصحف عبد الله بن مسعود قدمت فيه سورة " النساء " على " آل عمران " ; وترتيب بعضها بعد بعض ليس هو أمرا أوجبه الله ، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم ، ولهذا كان لكل مصحف ترتيب ، ولكن ترتيب المصحف العثماني أكمل ; وإنما لم يكتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مصحف لئلا يفضي إلى تغييره كل وقت ، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته - صلى الله عليه وسلم - فكتب أبو بكر والصحابة بعده ، ثم نسخ عثمان المصاحف التي بعث بها إلى الأمصار .

التالي السابق


الخدمات العلمية