الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 720 ] ما تقول السادة العلماء في من عزم على " فعل محرم " كالزنا والسرقة وشرب الخمر عزما جازما - فعجز عن فعله : إما بموت أو غيره . هل يأثم بمجرد العزم أم لا ؟ وإن قلتم : يأثم فما جواب من يحتج على عدم الإثم بقوله : { إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه } وبقوله : { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم } واحتج به من وجهين . ( أحدهما أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد . قاله ابن سيده . ( الثاني أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلام أو عمل وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز ويزعم أن لا دلالة في قول النبي صلى الله عليه وسلم { إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار } لأن الموجب لدخول المقتول في النار مواجهته أخاه لأنه عمل لا مجرد قصد وأن لا دلالة في قوله صلى الله عليه وسلم في الذي قال : { لو أن لي مالا لفعلت وفعلت أنهما في الإثم سواء وفي الأجر سواء } لأنه تكلم [ ص: 721 ] والنبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما لم تعمل به أو تتكلم } وهذا قد تكلم وقد وقع في هذه المسألة كلام كثير واحتيج إلى بيانها مطولا مكشوفا مستوفى .

                التالي السابق


                فأجاب : شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه . الحمد لله هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين . ( أحدهما عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها التي هي مورد الكلام .

                و ( الثاني عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها ; ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب حتى يجد الناظر في كلامهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر . فينبغي أن يعلم أن كل واحد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله وآخره ما لا يضبطه العباد : كالشك ثم الظن ثم العلم ثم اليقين ومراتبه ; وكذلك الهم والإرادة والعزم وغير ذلك ; ولهذا كان الصواب عند جماهيرأهل السنة - وهو [ ص: 722 ] ظاهر مذهب أحمد وهو أصح الروايتين عنه وقول أكثر أصحابه - أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي : كالألوان والطعوم والأرواح . فنقول أولا الإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل لكمال وجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من الأفعال ولم يفعلوه وإن كانت هذه الإرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتا كثيرا ; لكن حيث لم يقع الفعل المراد مع وجود القدرة التامة فليست الإرادة جازمة جزما تاما .

                وهذه " المسألة " إنما كثر فيها النزاع ; لأنهم قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شيء من الفعل وهذا لا يكون . وإنما يكون ذلك في العزم على أن يفعل فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئا في الحال والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل بل لا بد عند وجوده من حدوث تمام الإرادة المستلزمة للفعل وهذه هي الإرادة الجازمة .

                و " الإرادة الجازمة " إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام : له ثواب الفاعل التام وعقاب الفاعل التام [ ص: 723 ] الذي فعل جميع الفعل المراد حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته مثل المشتركين والمتعاونين على أفعال البر ومنها ما يتولد عن فعل الإنسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضلالة والسان سنة حسنة وسنة سيئة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء } وثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء } . فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه ; لكن قدرته بالدعاء والأمر وقدرة الفاعل بالاتباع والقبول ; ولهذا قرن الله تعالى في كتابه بين الأفعال المباشرة والمتولدة فقال : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } .

                فذكر في الآية الأولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة : [ ص: 724 ] وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب وما يحصل للكفار بهم من الغيظ وما ينالونه من العدو . وقال : { كتب لهم به عمل صالح } فأخبر أن هذه الأمور التي تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح وذكر في الآية الثانية نفس أعمالهم المباشرة التي باشروها بأنفسهم : وهي الإنفاق وقطع المسافة فلهذا قال فيها : { إلا كتب لهم } فإن هذه نفسها عمل صالح وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فما حدث مع هذه الإرادة الجازمة من الأمور التي تعين فيها قدرتهم بعض الإعانة هي لهم عمل صالح . وكذلك " الداعي إلى الهدى والضلالة " لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدى الأتباع وضلالهم وأتى من الإعانة على ذلك بما يقدر عليه كان بمنزلة العامل الكامل فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه : للهادي مثل أجور المهتدين وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة ; فإن السنة هي ما رسم للتحري فإن السان كامل الإرادة لكل ما يفعل من ذلك وفعله بحسب قدرته . ومن هذا قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ; } لأنه أول من سن القتل " فالكفل [ ص: 725 ] النصيب مثل نصيب القاتل كما فسره الحديث الآخر وهو كما استباح جنس قتل المعصوم لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة فصار شريكا في قتل كل نفس ومنه قوله تعالى { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } .

                ويشبه هذا أنه من كذب رسولا معينا كان كتكذيب جنس الرسل كما قيل فيه : { كذبت قوم نوح المرسلين } { كذبت عاد المرسلين } ونحو ذلك . ومن هذا الباب قوله تعالى { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } فأخبر أن أئمة الضلال لا يحملون من خطايا الأتباع شيئا وأخبر أنهم يحملون أثقالهم وهي أوزار الأتباع من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيء ; لأن إرادتهم كانت جازمة بذلك وفعلوا مقدورهم فصار لهم جزاء كل عامل ; لأن الجزاء على العمل يستحق مع الإرادة الجازمة وفعل المقدور منه . وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان : [ ص: 726 ] أن { النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل : فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين } فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الأريسيين وهم الأتباع وإن كان قد قيل : إن أصل هذه الكلمة من الفلاحين والأكرة كلفظ الطاء بالتركي فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما هو أعم من ذلك ومعلوم أنه إذا تولى عن أتباع الرسول كان عليه [ مثل ] آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة . ومن هذا قوله تعالى { إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } { لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين } { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } .

                فقوله : { ومن أوزار الذين يضلونهم } هي الأوزار الحاصلة لضلال الأتباع وهي حاصلة من جهة الآمر ومن جهة المأمور الممتثل فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلال ; فلهذا كان على هذا بعضه وعلى هذا بعضه إلا أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل كما دلت عليه سائر النصوص مثل قوله : [ ص: 727 ] { من دعا إلى الضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } . ومن هذا الباب قوله تعالى { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } .

                فأخبر سبحانه أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا }

                { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } .

                وأخبر سبحانه أن لكل من المتبعين والأتباع تضعيفا من العذاب . ولكن لا يعلم الأتباع التضعيف . ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لأئمة الهدى وعظيم الذم واللعنة لأئمة الضلال حتى روي في أثر - لا يحضرني إسناده - إنه ما من عذاب في النار إلا يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره وما من نعيم في الجنة إلا يبدأ فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره } فإنه هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم . كما قال : { أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة [ ص: 728 ] ولا فخر } وهو شفيع الأولين والآخرين في الحساب بينهم ; وهو أول من يستفتح باب الجنة . وذلك أن جميع الخلائق أخذ الله عليهم ميثاق الإيمان به كما أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن قبله من الأنبياء ; ويصدق بمن بعده . قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } الآية . فافتتح الكلام باللام الموطئة للقسم التي يؤتى بها إذا اشتمل الكلام على قسم وشرط ; وأدخل اللام على ما الشرطية ليبين العموم ويكون المعنى : مهما آتيكم من كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق الإيمان به ونصره . كما قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه . والله تعالى قد نوه بذكره وأعلنه في الملأ الأعلى ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه ; كما في { حديث ميسرة الفجر قال : قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ - وفي رواية - متى كتبت نبيا ؟ فقال : وآدم بين الروح والجسد } رواه أحمد .

                وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال : إني عند الله لخاتم النبيين . وإن آدم لمنجدل في طينته } الحديث . [ ص: 729 ] فكتب الله وقدر في ذلك الوقت وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود . فمن آمن به من الأولين والآخرين أثيب على ذلك وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب من لم يأت إلا بالإيمان المجمل ; على أنه إمام مطلق لجميع الذرية وأن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين ; كما أن كل ضلال وغواية في الجن والإنس لإبليس منه نصيب ; فهذا يحقق الأثر المروي ويؤيد ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا - إما من مراسيل الزهري .

                وإما من مراسيل من فوقه من التابعين - قال : { بعثت داعيا وليس إلي من الهداية شيء وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضلالة شيء } . ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه قوله في الحديث الذي في السنن : { وزنت بالأمة فرجحت ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح ثم وزن عمر بالأمة فرجح ثم رفع الميزان } فأما كون النبي صلى الله عليه وسلم راجحا بالأمة فظاهر ; لأن له مثل أجر جميع الأمة مضافا إلى أجره وأما أبو بكر وعمر فلأن لهما [ ص: 730 ] معاونة مع الإرادة الجازمة في إيمان الأمة كلها وأبو بكر كان في ذلك سابقا لعمر وأقوى إرادة منه ; فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان الأمة في دقيق الأمور وجليلها ; في محياه وبعد وفاته . ولهذا { سأل أبو سفيان يوم أحد : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه . فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم . فلم يملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله إن الذي ذكرت لأحياء وقد بقي لك ما يسوءك } رواه البخاري ومسلم حديث البراء بن عازب . فأبو سفيان - رأس الكفر حينئذ - لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة ; لأنهم قادة المؤمنين .

                كما ثبت في الصحيحين أن { علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال : والله ما على وجه الأرض أحد أحب أن ألقى الله بعمله من هذا المسجى والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك ; فإني كثيرا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر } وأمثال هذه النصوص كثيرة تبين سبب استحقاقهما إن كان لهما مثل أعمال جميع الأمة ; لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من القدرة [ ص: 731 ] على ذلك ; كله بخلاف من أعان على بعض ذلك دون بعض ووجدت منه إرادة في بعض ذلك دون بعض .

                و " أيضا " فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل وإن لم يكن إماما وداعيا كما قال سبحانه : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما } فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز ; ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز ; بل يقال : دليل الخطاب يقتضي مساواته إياه .

                ولفظ الآية صريح . استثنى أولو الضرر من نفي المساواة فالاستثناء هنا هو من النفي وذلك يقتضي أن أولي الضرر قد يساوون القاعدين وإن لم يساووهم في الجميع ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك : { إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم . قالوا : وهم بالمدينة . قال : وهم بالمدينة حبسهم العذر } فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة . ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته [ ص: 732 ] فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر .

                ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم } فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة لا لضعف النية وفتورها فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة ما للعامل والمسافر وإن كان قادرا مع مشقة كذلك بعض المرض إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة كما في قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقوله : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان بل لا بد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة بل أو مكافئة .

                ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا } وقوله : { من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء } فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس وجهاد بالمال فإذا بذل هذا بدنه وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما كان كل منهما مجاهدا [ ص: 733 ] بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته وكذلك لا بد للغازي من خليفة في الأهل فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضا غاز وكذلك الصيام لا بد فيه من إمساك ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم وإلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم . وكذلك قوله في الحديث الصحيح : { إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئا } وكذلك قوله في حديث أبي موسى : { الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين } أخرجاه . وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر وقد فعل مقدوره وهو الامتثال فكان أحد المتصدقين .

                ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما الدنيا لأربعة : رجل آتاه الله علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة الله فقال رجل : لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء } وقد رواه الترمذي مطولا وقال حديث حسن صحيح فهذا التساوي مع " الأجر والوزر " هو في حكاية حال من قال ذلك [ ص: 734 ] وكان صادقا فيه وعلم الله منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة ; فلهذا استويا في الثواب والعقاب .

                وليس هذه الحال تحصل لكل من قال : " لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل " إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته كعامة الخلق يعاهدون وينقضون وليس كل من عزم على شيء عزما جازما قبل القدرة عليه [ وعدم ] الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف كما قال تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } وكما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } وكما قال : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات . وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن رجلا من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ينشر الله له يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مدى البصر ويقال له هل تنكر من هذا شيئا ؟ هل ظلمتك ؟ فيقول : [ ص: 735 ] لا يا رب . فيقال له : لا ظلم عليك اليوم فيؤتى ببطاقة فيها التوحيد ; فتوضع في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة } فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية ; إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما . ومثل هذا الحديث الذي في حديث : المرأة البغي التي سقت كلبا فغفر الله لها ; فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة إذ ذاك ومثله قوله صلى الله عليه وسلم { إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت . يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة }



                فصل وبهذا تبين : أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها إنما هي فيما دون الإرادة الجازمة التي لا بد أن يقترن بها الفعل . كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : [ ص: 736 ] { إن الله كتب الحسنات والسيئات ; ثم بين ذلك : فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة . فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها له الله له حسنة كاملة . فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده سيئة واحدة } وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة .

                فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل ; ولهذا قال : " فعملها " " فلم يعملها " ومن أمكنه الفعل فلم يفعل لم تكن إرادته جازمة ; فإن الإرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل وموجب له ; إذ لو توقف على شيء آخر لم تكن الإرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل ومن المعلوم المحسوس أن الأمر بخلاف ذلك ولا ريب أن " الهم " و " العزم " و " الإرادة " ونحو ذلك قد يكون جازما لا يتخلف عنه الفعل إلا للعجز وقد لا يكون هذا على هذا الوجه من الجزم .

                فهذا " القسم الثاني " يفرق فيه بين المريد والفاعل ; بل يفرق بين إرادة وإرادة إذ الإرادة هي عمل القلب الذي هو ملك الجسد . كما قال أبو هريرة : القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 737 ] { إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } فإذا هم بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة فإن ذلك طاعة وخير وكذلك هو في عرف الناس كما قيل :

                لأشكرنك معروفا هممت به إن اهتمامك بالمعروف معروف     ولا ألومك إن لم يمضه قدر
                فالشيء بالقدر المحتوم مصروف

                فإن عملها كتبها الله له عشر حسنات لما مضى رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف .

                كما قال تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة { لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة إلى أضعاف كثيرة } . وقد روي عن أبي هريرة مرفوعا { أنه يعطى به ألف ألف حسنة } . وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها فإن الله لا يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح . وسواء سمي همه إرادة أو عزما أو لم يسم متى كان قادرا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته جازمة وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح [ ص: 738 ] حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به } فإن ما هم به العبد من الأمور التي يقدر عليها من الكلام والعمل ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة فتلك مما لم يكتبها الله عليه كما شهد به قوله : { من هم بسيئة فلم يعملها } ومن حكى الإجماع كابن عبد البر وغيره . في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا الاعتبار . وهذا الهام بالسيئة : فإما أن يتركها لخشية الله وخوفه أو يتركها لغير ذلك ; فإن تركها لخشية الله كتبها الله له عنده حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث وكما قد جاء في الحديث الآخر { اكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي أو قال : من جرائي } وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة كما جاء في الحديث الآخر { فإن لم يعملها لم تكتب عليه } . وبهذا تتفق معاني الأحاديث . وإن عملها لم تكتب عليه إلا سيئة واحدة فإن الله تعالى لا يضعف السيئات بغير عمل صاحبها ولا يجزي الإنسان في الآخرة إلا بما عملت نفسه ولا تمتلئ جهنم إلا من أتباع إبليس من الجنة والناس كما قال تعالى : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس { أن الجنة يبقى فيها فضل فينشئ الله لها أقواما في الآخرة وأما النار فإنه ينزوي بعضها إلى [ ص: 739 ] بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلئ بمن دخلها من أتباع إبليس } . ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولاد المشركين ; وأنه لا يجزم لمعين منهم بجنة ولا نار بل يقال فيهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين : حديث أبي هريرة وابن عباس : { الله أعلم بما كانوا عاملين }

                . فحديث أبي هريرة في الصحيحين وحديث ابن عباس في البخاري وفي حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري { أن منهم من يدخل الجنة } وثبت { أن منهم من يدخل النار } كما في صحيح مسلم في قصة الغلام الذي قتله الخضر وهذا يحقق ما روي من وجوه : أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الله فيهم فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث واختاره .

                وأما أئمة الضلال - الذين عليهم أوزار من أضلوه - ونحوهم فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من الفعل ; بقوله في حديث أبي كبشة " فهما في الوزر سواء " وقوله : { من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه } فإذا وجدت الإرادة الجازمة والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام ، والهام بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة وفاعل [ ص: 740 ] السيئة التي تمضي لا يجزى بها إلا سيئة واحدة كما شهد به النص وبهذا يظهر قول الأئمة حيث قال الإمام أحمد : " الهم " همان : هم خطرات وهم إصرار . فهم الخطرات يكون من القادر فإنه لو كان همه إصرارا جازما وهو قادر لوقع الفعل . ومن هذا الباب هم " يوسف " حيث قال تعالى : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } الآية .

                وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل : إنه كان هم إصرار لأنها فعلت مقدورها وكذلك ما ذكره عن المنافقين في قوله تعالى { وهموا بما لم ينالوا } فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم كما ذمهم الله عليه ومثله يذم وإن لم يكن جازما كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافي الإيمان وبين ما لا ينافيه وكذلك الحريص على السيئات الجازم بإرادة فعلها إذا لم يمنعه إلا مجرد العجز فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل لحديث أبي كبشة ولما في الحديث الصحيح { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه } وفي لفظ : { إنه أراد قتل صاحبه } . فهذه " الإرادة " هي الحرص وهي الإرادة الجازمة وقد وجد معها المقدور وهو القتال لكن عجز عن القتل وليس هذا من الهم الذي لا يكتب ولا يقال إنه استحق ذلك بمجرد قوله : لو أن لي ما لفلان [ ص: 741 ] لعملت مثل ما عمل فإن تمني الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم بل لا بد من أمر آخر وهو لم يذكر أنه يعاقب على كلامه وإنما ذكر أنهما في الوزر سواء .

                وعلى هذا فقوله : { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل } لا ينافي العقوبة على الإرادة الجازمة التي لا بد أن يقترن بها الفعل فإن " الإرادة الجازمة " هي التي يقترن بها المقدور من الفعل وإلا فمتى لم يقترن بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة عازمة فلا بد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية : مثل تقرب السارق إلى مكان المال المسروق ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به وتكلمه معه ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك فلا بد مع الإرادة الجازمة من شيء من مقدمات الفعل المقدور بل مقدمات الفعل توجد بدون الإرادة الجازمة عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : { العينان تزنيان وزناهما النظر واللسان يزني وزناه النطق واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه : { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار .

                قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ [ ص: 742 ] قال : إنه أراد قتل صاحبه
                } وفي رواية في الصحيحين { إنه كان حريصا على قتل صاحبه } . فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره منعه منها من قتل صاحبه العجز وليست مجرد هم ولا مجرد عزم على فعل مستقبل فاستحق حينئذ النار كما قدمنا من أن الإرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها مجرى الفاعل التام .

                و " الإرادة التامة " قد ذكرنا أنه لا بد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة بل قد تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك مع القدرة مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا : من اللمس والنظر والقبلة ويمتنع عن الفاحشة الكبرى ; ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح { العين تزني والأذن تزني واللسان يزني - إلى أن قال - والقلب يتمنى ويشتهي } أي يتمنى الوطء ويشتهيه ولم يقل " يريد " ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة ولا يستلزم وجود الفعل فلا يعاقب على ذلك ; وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والإرادة الجازمة [ التي ] يصدقها الفرج .

                ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود { أن رجلا أصاب من امرأة قبلة : فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك [ ص: 743 ] له فأنزل الله تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } الآية فقال الرجل : ألي هذه ؟ فقال : لمن عمل بها من أمتي } فمثل هذا الرجل وأمثاله لا بد في الغالب أن يهم بما هو أكبر من ذلك كما قال : { والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } لكن إرادته القلبية للقبلة كانت إرادة جازمة فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة وقد تكون جازمة لكن لم يكن قادرا . والأشبه في الذي نزلت فيه الآية أنه كان متمكنا لكنه لم يفعل . فتفريق أحمد وغيره : بين هم الخطرات وهم الإصرار هو الذي عليه الجواب فمن لم يمنعه من الفعل إلا العجز فلا بد أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر ولهذا قال ابن المبارك المصر الذي يشرب الخمر اليوم ثم لا يشربها إلى شهر وفي رواية إلى ثلاثين سنة ومن نيته أنه إذا قدر على شربها [ شربها ] .

                وقد يكون مصرا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر رمضان دون غيره فليس هذا بتائب مطلقا . ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان ويثاب إذا كان ذلك الترك لله وتعظيم شعائر الله واجتناب محارمه في ذلك الوقت ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة ولا هو مصر مطلقا .

                وأما الذي [ ص: 744 ] وصفه ابن المبارك فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها . قلت : والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أيضا . لكن نيته أن يشربها إذا قدر عليها غير النية مع وجود القدرة فإذا قدر قد تبقى نيته وقد لا تبقى ولكن متى كان مريدا إرادة جازمة لا يمنعه إلا العجز فهو معاقب على ذلك . كما تقدم . وتقدم أن مثل هذا لا بد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه حكى الإجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له فهذا الإجماع صحيح مع القدرة فإن الناوي للفعل القادر عليه ليس بمنزلة الفاعل وأما الناوي الجازم الآتي بما يمكن فإنه بمنزلة الفاعل التام . كما تقدم . ومما يوضح هذا أن الله سبحانه في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الإرادة كقوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا } وقال : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } وقال : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } .

                فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة ويريد الحياة الدنيا ويريد حرث الدنيا وقال في آية هود : { نوف إليهم أعمالهم فيها } - إلى أن قال - { وباطل ما كانوا يعملون } فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها وأن الإرادة هنا مستلزمة للعمل ولما ذكر إرادة الآخرة قال : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } .

                وذلك لأن إرادة الآخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو على العمل المأمور به لا كل سعي ولا بد مع ذلك من الإيمان . ومنه قوله : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } الآية { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة } فهذا نظير تلك الآية التي في سورة هود وهذا يطابق قوله : { إذا التقى المسلمان بسيفيهما } إلا أنه قال : { فإنه أراد قتل صاحبه } أو أنه { كان حريصا على قتل صاحبه } فذكر الحرص والإرادة على القتل وهذا لا بد أن يقترن به فعل وليس هذا مما دخل في حديث العفو : { إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها } .



                ومما يبنى على هذا مسألة معروفة - بين أهل السنة وأكثر العلماء [ ص: 746 ] وبين بعض القدرية - وهي " توبة العاجز عن الفعل " كتوبة المجبوب عن الزنا وتوبة الأقطع العاجز عن السرقة ونحوه من العجز ; فإنها توبة صحيحة عند جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم وخالف في ذلك بعض القدرية ; بناء على أن العاجز عن الفعل لا يصح أن يثاب على تركه الفعل ; بل يعاقب على تركه وليس كذلك ; بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا ، وبينا أن الإرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه كالتائب القادر عليها سواء فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل كإصرار العاجز عن كمال الفعل . ومما يبنى على هذا " المسألة المشهورة في الطلاق " وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به فإنه لا يقع به الطلاق عند جمهور العلماء .

                وعند مالك في إحدى الروايتين يقع وقد استدل أحمد وغيره من الأئمة على ترك الوقوع بقوله : { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها } فقال المنازع : هذا المتجاوز عنه إنما هو حديث النفس والجازم بذلك في النفس ليس من حديث النفس " . فقال المنازع لهم : قد قال { ما لم تكلم به أو تعمل به } فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي هي الكلام به [ ص: 747 ] والعمل به كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلال بعض الناس وهو استدلال حسن ; فإنه لو كان حديث النفس إذا صار عزما ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به لكان خلاف النص لكن يقال : هذا في المأمور [ صاحب ] المقدرة التي يمكن فيها الكلام والعمل إذا لم يتكلم ولم يعمل وأما الإرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجري مجرى التي أتى معها بكمال العمل بدليل الأخرس لما كان عاجزا عن الكلام وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين ونحوهما لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الإشارة جرى ذلك مجرى الكلام من غيره والأحكام والثواب والعقاب وغير ذلك .

                وأما الوجه الآخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقا فليس كذلك ; بل إذا قيل : إن الإرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك يصح ذلك ; فإن المراد إن كان مقدورا مع الإرادة الجازمة وجب وجوده وإن كان ممتنعا فلا بد مع الإرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته وحيث لم يوجد فعل أصلا فهو هم . وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الإرادة والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب إذ كانت هذه الأعمال حيث وقع عليهم ذم وعقاب فلأنها تمت حتى صارت قولا وفعلا .

                [ ص: 748 ] وحينئذ قوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي } الحديث حق والمؤاخذة بالإرادات المستلزمة لأعمال الجوارح حق ; ولكن طائفة من الناس قالوا : إن الإرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول ثم تنازعوا في العقاب عليها فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج ابن الجوزي يرون العقوبة على ذلك وليس معهم دليل على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل . والقاضي بناها على أصله في " الإيمان " الذي اتبع فيه جهما والصالحي وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب ولو كذب بلسانه وسب الله ورسوله بلسانه وإن سب الله ورسوله إنما هو كفر في الظاهر وأن كلما كان كفرا في نفس الأمر فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب وهذا أصل فاسد في الشرع والعقل حتى إن الأئمة : كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في " الإيمان " بهذا القول ; بخلاف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون : هو تصديق القلب واللسان ; فإن هؤلاء لم يكفرهم أحد من الأئمة وإنما بدعوهم .



                وقد بسط الكلام في " الإيمان " وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع وبين أن من الناس من يعتقد وجود الأشياء بدون لوازمها . فيقدر ما لا وجود له [ ص: 749 ] وأصل جهم في " الإيمان " تضمن غلطا من وجوه : ( منها ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب : كحب الله وخشيته ونحو ذلك . و ( منها ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من الأقوال والأعمال . و ( منها ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق وجزموا بأن إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك . وهذا كلامهم في الإرادة والكراهة والحب والبغض ونحو ذلك ; فإن هذه الأمور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنها وإذا صارت إرادة جازمة وحبا وبغضا لزم وجود الفعل ووقوعه وحينئذ فليس لأحد [ أن ] يقدر وجودها مجردة . ثم يقول : ليس فيها إثم وبهذا يظهر الجواب عن حجة السائل . فإن الأمة مجمعة على أن الله يثيب على محبته ومحبة رسوله والحب فيه والبغض فيه ويعاقب على بغضه وبغض رسوله وبغض أوليائه وعلى محبة الأنداد من دونه وما يدخل في هذه المحبة من الإرادات [ ص: 750 ] والعزوم فإن المحبة سواء كانت نوعا من الإرادة أو نوعا آخر مستلزما للإرادة فلا بد معها من إرادة وعزم فلا يقال : هذا من حديث النفس المعفو عنه ; بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : { أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله }

                وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } وفي صحيح البخاري عن { عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر : لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال عمر : فإنك الآن أحب إلي من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر } بل قد قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الله به من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فعلم أنه يجب [ ص: 751 ] أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان وإلا لم يكن مؤمنا حقا ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما } وهذا لفظ البخاري فأخبر أنه لا يجد أحد حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبات الثلاث .

                ( أحدها أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنا بدونها . ( الثاني أن يحب العبد لا يحبه إلا لله وهذا من لوازم الأول .

                و ( الثالث أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر . وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقه في التوبة هذه الخصال محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين فيه وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا فهي مستلزمة لذلك فإن من كان الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله لا بد [ ص: 752 ] أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة مثل إرادته نصر الله ورسوله ودينه والتقريب إلى الله ورسوله ومثل بغضه لمن يعادي الله ورسوله . ومن هذا الباب ما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح من حديثابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { المرء مع من أحب } وفي رواية { الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم } أي ولما يعمل بأعمالهم فقال : { المرء مع من أحب } قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن يجعلني الله معهم وإن لم أعمل عملهم .

                وهذا الحديث حق فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك وكونه معه هو على محبته إياه فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه إذا كان المحب قادرا عليها فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك وإن كانت موجودة . وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته مع العلم بالتضاد ; ولهذا قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } والموادة من أعمال القلوب . فإن الإيمان بالله يستلزم مودته ومودة رسوله وذلك يناقض موادة من حاد الله ورسوله وما ناقض الإيمان فإنه يستلزم العزم والعقاب ; لأجل عدم الإيمان . فإن ما ناقض الإيمان كالشك والإعراض وردة القلب وبغض الله ورسوله يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر الله به رسوله فاستحق تاركه الذم والعقاب ، وأعظم الواجبات إيمان القلب فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب ; بخلاف ما استحق الذم لكونه منهيا عنه كالفواحش والظلم ; فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده إذا كان هذا لا يناقض أصل الإيمان وإن كان يناقض كماله ; بل نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فالصلاة تضمنت شيئين : ( أحدهما نهيها عن الذنوب .

                و ( الثاني تضمنها ذكر الله وهو أكبر الأمرين فما فيها من ذكر الله أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر و [ لبسط ] هذا موضع آخر .

                [ ص: 754 ] و ( المقصود هنا أن المحبة التامة لله ورسوله تستلزم وجود محبوباته ; ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي { من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان } " فإنه إذا كان حبه لله وبغضه لله وهما عمل قلبه . وعطاؤه لله ومنعه لله وهما عمل بدنه دل على كمال محبته لله و [ دل ] ذلك على كمال الإيمان ; وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله لله وذلك عبادة الله وحده لا شريك له والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال الذل والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية ولا بد لكل حي من حب وبغض فإذا كانت محبته لمن يحبه الله وبغضه لمن يبغضه الله دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس فإذا كان حبه لله وعطاؤه لله ومنعه لله . دل على كمال الإيمان باطنا وظاهرا .

                وأصل الشرك في المشركين - الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا - إنما هو اتخاذ أنداد يحبونهم كحب الله كما قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } ومن كان حبه لله وبغضه لله لا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله فهذه حال السابقين من أولياء الله كما روى البخاري [ ص: 755 ] في صحيحه عن أبي هريرة عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن : يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } . فهؤلاء الذين أحبوا الله محبة كاملة تقربوا بما يحبه من النوافل بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض أحبهم الله محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه وصار أحدهم يدرك بالله ويتحرك بالله بحيث أن الله يجيب مسألته . ويعيذه مما استعاذ منه .

                وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه قال تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } وذم من اتخذ إلهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه وهذا قد يكون فعل القلب فقط . وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع على المحبة والإرادة والبغض والسخط والفرح والغم ونحو ذلك من أفعال القلوب كقوله : { والذين آمنوا أشد حبا لله } وقوله : { كلا بل تحبون العاجلة } { وتذرون الآخرة } [ ص: 756 ] وقوله : { يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } .

                وقوله { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وقوله : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } وقوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } وقوله : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم } وقوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } وقوله : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } .

                وقوله : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وقوله : { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } وقوله : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } الآية وقوله : { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه } وقوله : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } .

                وقال : { إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } وقال : { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } وقال : { إن الله لا يحب كل مختال فخور } وقال : { وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها } وقال : { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور } { ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور } { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات } وقال : { وتحبون المال حبا جما } وقال : { إن الإنسان لربه لكنود } { وإنه على ذلك لشهيد } { وإنه لحب الخير لشديد } .

                وقال : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون } وقال : { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } .

                وقال : { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } وقال : { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا } وقال : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } وقال : { ومن شر حاسد إذا حسد } وقال : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } وقال : { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } وقال : { إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم } وقال : { إذا بعثر ما في القبور } { وحصل ما في الصدور } وقال : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } وقال : { فيطمع الذي في قلبه مرض } .

                وقال : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } .

                وقال : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } .

                وقال : { قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } . ومثل هذا كثير في كتاب الله وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء الله من مساعي القلوب وأعمالها : مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه : { لا تباغضوا ولا تحاسدوا } وقوله : { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه } وقوله : { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر } وقوله : { لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر } و { لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان } . وقوله : { لا تسموا العنب الكرم وإنما الكرم قلب المؤمن } وأمثال هذا كثير .



                بل قول القلب وعمله هو الأصل : مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب بدون فعل الجوارح الظاهرة ومنه ما لا يقترن به ذلك إلا مع الفعل بالجوارح الظاهرة [ ص: 759 ] إذا كانت مقدورة وأما ما ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل فأقوال القلب وأفعاله ثلاثة أقسام : ( أحدها ما هو حسنة وسيئة بنفسه . و ( ثانيها ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل وهو السيئة المقدورة كما تقدم . و ( ثالثها ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة كما تقدم .

                " فالقسم الأول " : هو ما يتعلق بأصول الإيمان من التصديق والتكذيب والحب والبغض وتوابع ذلك ; فإن هذه الأمور يحصل فيها الثواب والعقاب وعلو الدرجات وأسفل الدركات بما يكون في القلوب من هذه الأمور وإن لم يظهر على الجوارح : بل المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة وإنما عقابهم وكونهم في الدرك الأسفل من النار على ما في قلوبهم من الأمراض وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانا بغض القول والفعل لكن ليست العقوبة مقصورة على ذلك البغض اليسير وإنما ذلك البغض دلالة كما قال تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } فأخبر أنهم لا بد أن يعرفوا في لحن القول . وأما " القسم الثاني " و " الثالث " فمظنة الأفعال التي لا تنافي أصول الإيمان مثل المعاصي الطبعية ; مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر .

                كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من مات يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله دخل الجنة . وإن زنى وإن سرق . وإن شرب الخمر } وكما شهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل فقال : { لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } وفي رواية { قال بعضهم : أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم } وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة . ولهذا قال : { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به } والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث ; لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من [ ص: 761 ] أمة محمد في الحقيقة ويكون بمنزلة المنافقين فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله وهذا فرق بين يدل عليه الحديث وبه تأتلف الأدلة الشرعية .

                وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان . كما دل عليه الكتاب والسنة فمن صح إيمانه عفي له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس كما يخرجون من النار ; بخلاف من ليس معه الإيمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه ولهذا جاء : { نية المؤمن خير من عمله } هذا الأثر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في " كتاب الأمثال " من مراسيل ثابت البناني .

                وقد ذكره ابن القيم في النية من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضعفها . فالله أعلم . فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها وتجري مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إلا العجز ويمكنه ذلك في عامة أفعال الخير وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة وذلك لا يكون إلا قليلا ; ولهذا قال بعض السلف : قوة المؤمن في قلبه وضعفه في بدنه وقوة المنافق في بدنه وضعفه في قلبه . وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } الآية .

                وهذه الآية وإن كان قد قال طائف من السلف إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عمر - إنها نسخت فالنسخ في لسان السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين يريدون به رفع الدلالة مطلقا وإن كان تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق وغير ذلك كما هو معروف في عرفهم وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك وزعم قوم : أن ذلك خبر والخبر لا ينسخ . ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي . كالخبر الذي بمعنى الأمر والنهي . والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } كما روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الآية فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الأحاديث وهو ما هموا به وحدثوا به أنفسهم من الأمور المقدورة ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .

                كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن { إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . و " حقيقة الأمر " أن قوله سبحانه : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } لم يدل على المؤاخذة بذلك ; بل دل على المحاسبة به ولا [ ص: 763 ] يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب ; ولهذا قال : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } لا يستلزم أنه قد يغفر ويعذب بلا سبب ولا ترتيب ولا أنه يغفر كل شيء أو يعذب على كل شيء مع العلم بأنه لا يعذب المؤمنين وأنه لا يغفر أن يشرك به إلا مع التوبة . ونحو ذلك . والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعا لأصل الإيمان وما كان منافيا له ويفرق أيضا بين ما كان مقدورا عليه فلم يفعل وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة .

                وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في " المسألة " إنما وقع لكونهم رأوا عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا إذا كان الفعل مقارنا للعزم وإن كان العجز مقارنا للإرادة امتنع وجود المراد لكن لا تكون تلك إرادة جازمة فإن الإرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضا فمع الإرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه وإن لم يوجد الفعل نفسه . والإنسان يجد من نفسه : أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله [ على ] السواء ولا عما يظهر على صفحات وجهه [ ص: 764 ] وفلتات لسانه . مثل بسط الوجه وتعبسه وإقباله على الشيء والإعراض عنه وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب كما يترتب عليها الحمد والثواب .

                وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازما ولا نزاع في إطلاق الألفاظ ; فإن من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول : ما قارن الفعل فهو قصد وما كان قبله فهو عزم . ومنهم من يجعل الجميع سواء وقد تنازعوا هل تسمى إرادة الله لما يفعله في المستقبل [ عزما ] وهو نزاع لفظي ; لكن ما عزم الإنسان عليه أن يفعله في المستقبل فلا بد حين فعله من تجدد إرادة غير العزم المتقدم وهي الإرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة وتنازعوا أيضا هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي ؟ وقد ذكروا أيضا في ذلك قولين : والأظهر أن القدرة مع الداعي التمام تستلزم وجود المقدور والإرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد . والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلقا على كل عزم على فعل مستقبل وإن لم يقترن به فعل .

                وأراد الآخر رفع العقاب [ ص: 765 ] مطلقا عن كل ما في النفس من الإرادات الجازمة ونحوها مع ظن الاثنين أن ذلك الواحد لم يظهر بقول ولا عمل . وكل من هذين انحراف عن الوسط . فإذا عرف أن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة إلا لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في الثواب والعقاب . وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف لا يكون مرادا إرادة جازمة ; بل هو الهم الذي وقع العفو عنه . وبه ائتلفت النصوص والأصول .



                ثم هنا " مسائل كثيرة " فيما يجتمع في القلب من الإرادات المتعارضة كالاعتقادات المتعارضة وإرادة الشيء وضده ; مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها . ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ منه كما { شكا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقالوا : إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به فقال : أو قد وجدتموه فقالوا : نعم . قال : ذلك صريح الإيمان } رواه مسلم من حديث ابن مسعود وأبي هريرة . وفيه : { الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة } . وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان [ ص: 766 ] به على الجواب ; فإن له موارد واسعة . فهنا لما اقترن بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة كان هو صريح الإيمان وهو خالصه ومحضه ; لأن المنافق والكافر لا يجد هذا البغض وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك ; بل إن كان في الكفر البسيط وهو الإعراض عما جاء به الرسول وترك الإيمان به - وإن لم يعتقد تكذيبه - فهذا قد لا يوسوس له الشيطان بذلك إذ الوسوسة بالمعارض المنافي للإيمان إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه فإذا لم يكن معه ما يقتضي الإيمان لم يحتج إلى معارض يدفعه ; وإن كان في الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة وليس معه إيمان يكره به ذلك .

                ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين كما قال تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله } الآيات .

                فضرب الله المثل لما ينزله من الإيمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الأرض وجعل القلوب كالأودية : منها الكبير ومنها الصغير كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا : فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وشربوا وكانت منها طائفة إنما هي [ ص: 767 ] قيعان لا تمسك ماء فلا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به من الهدى والعلم . ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به } فهذا أحد المثلين . و " المثل الآخر " ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع : من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه وأخبر أن السيل يحتمل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله ثم قال : { كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد } الرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والإرادات الفاسدة كما شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { فيذهب جفاء } يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما يقذف الماء الزبد ويجفوه { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين والإيمان .

                كما قال تعالى : { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } الآية إلى قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيمانا ويقينا كما أن كل من حدثته نفسه بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه لله ازداد صلاحا وبرا وتقوى .

                [ ص: 768 ] وأما المنافق فإذا وقعت له الأهواء والآراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها والقلوب يعرض لها الإيمان والنفاق فتارة يغلب هذا وتارة يغلب هذا . وقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها } كما في بعض ألفاظه في الصحيح هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين دون من كان مسلما في الظاهر وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في المتظاهرين بالإسلام قديما وحديثا . وهم في هذه الأزمان المتأخرة في بعض الأماكن أكثر منهم في حال ظهور الإيمان في أول الأمر فمن أظهر الإيمان وكان صادقا مجتنبا ما يضاده أو يضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به والعمل به : دون ما ليس كذلك .

                كما دل عليه لفظ الحديث . فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث وكذلك قوله : " من هم بحسنة " و " من هم بسيئة " إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها ; لأنه أخبر أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة . [ ص: 769 ] وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات لله . كما قال تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } و { ابتغاء مرضاة الله } و { ابتغاء وجه ربه } وهذا للمؤمنين ; فإن الكافر وإن كان الله يطعمه بحسناته في الدنيا وقد يخفف عنه بها في الآخرة ; كما خفف عن أبي طالب لإحسانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يوعد لكافر على حسناته بهذا التضعيف وقد جاء ذلك مقيدا في حديث آخر : إنه في المسلم الذي هو حسن الإسلام . والله سبحانه أعلم . والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .




                الخدمات العلمية