الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 381 ] فصل فيما يوجبه على نفسه ( وإذا قال : لله علي صوم يوم النحر أفطر وقضى ) فهذا النذر صحيح عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله . هما يقولان : إنه نذر بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام . ولنا أنه نذر بصوم مشروع والنهي لغيره ، وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى ، فيصح نذره لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ثم يقضي إسقاطا للواجب ، وإن صام فيه يخرج عن العهدة لأنه أداه كما التزمه .

[ ص: 382 ] ( وإن نوى يمينا فعليه كفارة يمين ) يعني . إذا أفطر ، وهذه المسألة على وجوه ستة : إن لم ينو شيئا أو نوى النذر لا غير ، أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا لأنه نذر بصيغته . كيف وقد قرره بعزيمته ؟ وإن نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا ، لأن اليمين محتمل كلامه وقد عينه ونفى غيره ، وإن نواهما يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، وعند أبي يوسف رحمه الله يكون نذرا ، ولو نوى اليمين فكذلك عندهما وعنده يكون يمينا . لأبي يوسف أن النذر فيه حقيقة واليمين مجاز حتى لا يتوقف الأول على النية ، ويتوقف الثاني فلا ينتظمهما ، ثم المجاز يتعين بنيته ، وعند نيتهما تترجح الحقيقة . [ ص: 383 ] ولهما أنه لا تنافي بين الجهتين لأنهما يقتضيان الوجوب إلا أن النذر يقتضيه لعينه واليمين لغيره ، [ ص: 384 ] فجمعنا بينهما عملا بالدليلين ، كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعاوضة في الهبة بشرط العوض .

[ ص: 381 ]

التالي السابق


[ ص: 381 ] فصل فيما يوجبه على نفسه )

وجه تقديم بيان أحكام الواجب بإيجاب الله تعالى ابتداء على الواجب عند إيجاب العبد ظاهر .

( قوله فهذا النذر صحيح ) رتبه بالفاء لأنه نتيجة قوله : قضى : أي لما لزم القضاء كان النذر صحيحا ( قوله لورود النهي عن صوم هذه الأيام ) وفي بعض النسخ : عن صوم يوم النحر وهو الأنسب بوضع المسألة فإنه قال : لله علي صوم يوم النحر ، واسم الإشارة في النسخة الأخرى مشار به إلى معهود في الذهن بناء على شهرة الأيام المنهي عن صيامها ، وهي أيام التشريق والعيدين ، ويناسب النسخة الأولى الاستدلال بما روي في الصحيحين عن الخدري { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الأضحى وصيام يوم الفطر } .

وفي لفظ لهما سمعته يقول { لا يصح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان } ويناسب النسخة الأخرى الاستدلال بما [ ص: 382 ] سيأتي من قوله عليه الصلاة والسلام { ألا لا تصوموا في هذه الأيام } إلخ . والجواب : أن الاتفاق على أن النهي المجرد عن الصوارف ليس موجبه بعد طلب الترك سوى كون مباشرة المنهي عنه معصية سببا للعقاب لا الفساد ، أما لغة فظاهر لظهور حدوث معنى الفساد ، وأما شرعا : فكذلك بل لا يستلزمه في العبادات ولا المعاملات لتحقق موجبه في كثير منها : أعني المنع المنتهض سببا للعقاب مع الصحة ، كما في البيع وقت النداء ، والصلاة في الأرض المغصوبة ، ومع العبث الذي لا يصل إلى إفساد الصلاة ، وكثير .

فعلم أن ثبوت الفساد ليس من مقتضاه بل إنما يثبت لأمر آخر هو كونه لأمر في ذاته ، فما لم يعقل فيه ذلك بل كان لأمر خارج عن نفس الفعل متصل به لا يوجب فيه الفساد ، وإلا لكان إيجابا بغير موجب فإنما يثبت حينئذ مجرد موجبه وهو التحريم أو كراهة التحريم بحسب حاله من الظنية والقطعية .

إذا عرف هذا فقد أثبتنا في المتنازع فيه تمام موجب النهي حتى قلنا إنه يصلح سببا للعقاب ، ولم يثبت الفساد لو فعل لعدم موجبه لعقلية أنه لأمر خارج فتكون المعصية لاعتباره لا لنفس الفعل أو لما في نفسه فيصح النذر أثرا لتصور الصحة ، ويجب أن لا يفعل للمعصية فيظهر أثره في القضاء لأن الصحة بالانتهاض سببا للآثار الشرعية ومنها هذا ، وكم موضع يثبت فيه الوجوب ليظهر أثره في القضاء لا الأداء لحرمته كصوم رمضان في حق الحائض والنفساء ، والاستقراء يوجدك كثيرا من ذلك .

فلم يخرج بذلك عن شيء من القواعد التحقيقية ، وغاية ما بقي بيان أن النهي فيه لأمر خارج ، ولا يكاد يخفى على ذي لب أن الصوم الذي هو منع النفس مشتهاها لا يعقل في نفسه سببا للمنع ، بل كونه في هذه الأيام يستلزم الإعراض عن ضيافة الله تعالى على ما ورد في الآثار أن المؤمنين أضياف الله تعالى في هذه الأيام .

بقي أن يقال : نذر بما هو معصية وهو [ ص: 383 ] منفي شرعا فلا وجود له فلا ينعقد ، أما الأولى : فظاهرة .

وأما الثانية فلما في سنن الثلاثة عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام { لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين } قلنا : المراد نفي جواز الإيفاء به نفسه لا نفي انعقاده ، لما صرح به في حديث النسائي عن عمران بن الحصين : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { النذر نذران ، فمن كان نذر في طاعة الله فذلك لله فيه الوفاء ، ومن كان نذر في معصية الله فذلك للشيطان فلا وفاء ويكفره ما يكفر اليمين } فإيجاب الكفارة في النص يفيد أنه انعقد ولم يلغ ، وأن المنفي الوفاء به بعينه ، فكذا في حديث عائشة رضي الله عنها فكان وزان قوله عليه الصلاة والسلام { لا يمين في قطيعة رحم } مع أنها تنعقد للكفارة .

غير أن الانعقاد فيما نحن فيه يكون لأمرين : للقضاء فيما إذا كان جنس المنذور مما يخلو بعض أفراده عن المعصية كما نحن فيه ، فإن الصوم وهو الجنس كذلك فيجب الفطر والقضاء في يوم لا كراهة فيه ، وللكفارة إن كان لا يخلو شيء من أفراده عنها كالنذر بالزنا وبالسكر إذا قصد اليمين فينعقد للكفارة ، وهو محمل الحديث وإلا فيلغو ضرورة أنه لا فائدة في انعقاده ، ومقتضى الظاهر أن ينعقد مطلقا للكفارة إذا تعذر الفعل ، وعليه مشى المشايخ .

قال الطحاوي رحمه الله : لو أضاف النذر إلى سائر المعاصي كقوله : لله علي أن أقتل فلانا كان يمينا ولزمته الكفارة بالحنث ا هـ .

وإنما لا يلزم اليمين بلفظ النذر إلا بالنية في نذر الطاعة كالحج والصلاة والصدقة على ما هو مقتضى الدليل ، فلا تجزئ الكفارة عن الفعل .

وبه أفتى السغدي ، وهو الظاهر عن أبي حنيفة رضي الله عنه ، وعن أبي حنيفة أنه رجع عنه قبل موته بسبعة أيام ، وقال : تجب فيه الكفارة ، قال السرخسي : وهذا اختياري لكثرة البلوى به في هذا الزمان . قال : وهو اختيار الصدر الشهيد في فتاواه الصغرى ، وبه يفتى . وعلى صحة النذر يصوم يوم النحر لكنه مخصوص بما ذكر لدليل عندهم يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى .

وعلى هذا فما ذكروا من أن شرط النذر كونه بما ليس بمعصية كون المعصية باعتبار نفسه حتى لا ينفك شيء من أفراد الجنس عنها ، وإذا صح النذر فلو فعل نفس المنذور عصى وانحل النذر كالحلف بالمعصية ينعقد للكفارة ، فلو فعل المعصية المحلوف عليها سقطت وأثم .

( قوله ولهما أنه لا تنافي بين الجهتين ) الكائنتين لهذا اللفظ ، وهو لله علي كذا جهة اليمين وجهة النذر ( لأنهما ) أي اليمين والنذر ( يقتضيان الوجوب ) أي وجوب ما تعلقا به ، لا فرق سوى .

( أن النذر يقتضيه لعينه ) وهو وفاء المنذور لقوله تعالى { وليوفوا نذورهم } ( واليمين لغيره ) وهو صيانة اسمه تعالى ، [ ص: 384 ] ولا تنافي لجواز كون الشيء واجبا لعينه ولغيره ، كما إذا حلف ليصلين ظهر هذا اليوم .

( فجمعنا بينهما كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعاوضة في الهبة بشرط العوض ) حيث اعتبرت الأحكام الثلاثة لجهة التبرع ، البطلان بالشيوع وعدم جواز تصرف المأذون فيها . واشتراط التقابض ، والثلاثة لجهة المعاوضة الرد بخيار العيب ، والرؤية ، واستحقاق الشفعة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى . بقي أن يقال : يلزم التنافي من جهة أخرى ، وهو أن الوجوب الذي يقتضيه اليمين وجوب يلزم بترك متعلقه الكفارة ، والوجوب الذي هو موجب النذر ليس يلزم بترك متعلقه ذلك ، وتنافي اللوازم أقل ما يقتضي التغاير فلا بد أن لا يرادا بلفظ واحد ، ونخبة ما قرر به كلام فخر الإسلام هنا أن تحريم المباح وهو معنى اليمين لازم لموجب صيغة النذر ، وهو إيجاب المباح فيثبت مدلولا التزاميا للصيغة من غير أن يراد هو بها ويستعمل فيه ، ولزوم الجمع بين الحقيقي والمجازي باللفظ الواحد إنما هو باستعمال اللفظ فيهما ، والاستعمال ليس بلازم في ثبوت المدلول الالتزامي ، وحينئذ فقد أريد باللفظ الموجب فقط ، ويلازم الموجب الثابت دون استعمال فيه اليمين ، فلا جمع في الإرادة باللفظ إلا أن هذا يتراءى مغلطة ، إذ معنى ثبوت الالتزامي غير مراد ليس إلا خطورة عند فهم ملزومه الذي هو مدلول اللفظ محكوما بنفي إرادته للمتكلم ، والحكم بذلك ينافيه إرادة اليمين به ، لأن إرادة اليمين التي هي إرادة تحريم المباح هي إرادة المدلول الالتزامي على وجه أخص منه حال كونه مدلولا التزاميا ، فإنه أريد على وجه تلزم الكفارة بخلفه ، وعدم إرادة الأعم تنافيه إرادة الأخص ، أعني تحريمه على ذلك الوجه ، فلم يخرج عن كونه أريد باللفظ معنى .

نعم إنما يصح إذا فرض عدم قصد المتكلم عند التلفظ سوى النذر ، ثم بعد التلفظ عرض له إرادة ضم الآخر على فوره ، لكن الحكم وهو لزومهما لا يخص هذه الصورة ، فلذا والله أعلم عدل صاحب البدائع عن هذه الطريقة فقال : النذر مستفاد من الصيغة واليمين من الموجب ، قال : فإن إيجاب المباح يمين كتحريمه الثابت بالنص يعني قوله تعالى { لم تحرم ما أحل الله لك } إلى أن قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } لما حرم عليه الصلاة والسلام على نفسه مارية رضي الله عنها أو العسل ، فأفاد أنه إنما أريد باللفظ موجبه وهو إيجاب المباح ، وأريد بنفس إيجاب المباح الذي هو نفس الموجب كونه يمينا قال : ومع الاختلاف فيما أريد به لا جمع ، يعني حيث أريد باللفظ إيجاب المباح من غير زيادة ، وبالإيجاب نفسه كونه يمينا لا جمع في الإرادة باللفظ بخلاف ما تقدم ، فإنه متى أريد الالتزامي ليراد به اليمين لزم الجمع في الإرادة باللفظ ، إذ ليس معنى الجمع إلا أنه أريد عند إطلاق اللفظ ، ثم لا يخال أنه قياس لتعدية الاسم للمتأمل .

وفيه أيضا نظر لأن إرادة الإيجاب على أنه يمين إرادته على وجه هو أن يستعقب الكفارة بالخلف وإرادته من اللفظ نذرا إرادته بعينه على أن لا يستعقبها بل القضاء وذلك تناف ، فيلزم إذا أريد يمينا وثبت حكمها شرعا وهو لزوم الكفارة بالخلف أنه لم يصح نذرا إذ لا أثر لذلك فيه .




الخدمات العلمية