الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3484 ] [ 4 ] باب قصة ابن صياد

الفصل الأول

5494 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - انطلق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من أصحابه قبل ابن صياد ، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان وفي أطم بني مغالة ، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم ، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره بيده ، ثم قال : " أتشهد أني رسول الله ؟ فنظر إليه فقال : أشهد أنك رسول الأميين ، ثم قال ابن صياد : أتشهد أني رسول الله ؟ فرصه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : آمنت بالله وبرسله " . ثم قال لابن الصياد : ماذا ترى ؟ قال : يأتيني صادق وكاذب . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " خلط عليك الأمر " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إني خبأت لك خبيئا " وخبأ له : يوم تأتي السماء بدخان مبين . فقال : هو الدخ . فقال : " اخسأ فلن تعدو قدرك " . قال عمر : يا رسول الله ! أتأذن لي فيه أن أضرب عنقه ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن يكن هو لا تسلط عليه ، وإن لم يكن هو فلا خير لك من قتله " . قال ابن عمر : انطلق بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بن كعب الأنصاري يؤمان النخل التي فيها ابن صياد ، فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقي بجذوع النخل ، وهو يختل أن يسمع من ابن الصياد شيئا قبل أن يراه ، وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة له فيها زمزمة ، فرأت أم ابن صياد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل . فقالت : أي صاف - وهو اسمه - هذا محمد . فتناهى ابن صياد . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لو تركته بين " . قال عبد الله بن عمر : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال : " إني أنذركموه ، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه ، لقد أنذر نوح قومه ، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ، تعلمون أنه أعور ، وأن الله ليس بأعور " . متفق عليه .

التالي السابق


[ 4 ] باب قصة ابن صياد

كذا في نسخة السيد وأكثر النسخ المعتمدة . وفي بعض النسخ : ابن الصياد معرفا . في القاموس : ابن صائد أو صياد الذي كان يظن أنه الدجال ، وقال الأكمل : ابن صائد اسمه عبد الله ، وقيل : صياف . ويقال : ابن صائد وهو يهودي من يهود المدينة . وقيل : هو دخيل فيهم ، وكان حاله في صغره حال الكهان يصدق مرة ويكذب مرارا ، ثم أسلم لما كبر وظهرت منه علامات من الحج والجهاد مع المسلمين ، ثم ظهرت منه أحوال ، وسمعت منه أقوال تشعر بأنه الدجال . وقيل : إنه تاب ومات بالمدينة . وقيل : بل فقد يوم الحرة . وقال ابن الملك - رحمه الله : اختلفوا في حال ابن الصياد ، فقيل : هو الدجال ، وما يقال : إنه مات بالمدينة لم يثبت ، إذ قد روي أنه فقد يوم الحرة ، وأما أنه لم يولد للدجال ، وأنه لا يدخل البلدين ، وأنه يكون كافرا ، فذلك في زمان خروجه ، وقيل : ليس هو الدجال ، ونقل أن جابرا حلف بالله أن ابن صياد هو الدجال ، وأنه سمع عمر بن الخطاب يحلف ذلك عند النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم ينكره ، والظاهر من قصة تميم الداري - رضي الله تعالى عنه - أنه ليس هو الدجال ، نعم كان أمر ابن الصياد ابتلاء من الله تعالى لعباده ، فوقى الله تعالى المسلمين من شره . أقول : ولا ينافيه قصة تميم الداري إذ يمكن أن يكون له أبدان مختلفة ، فظاهره في عالم الحس والخيال دائر مع اختلاف الأحوال ، وباطنه في عالم المثال مقيد بالسلاسل والأغلال ، ولعل المانع من ظهوره كماله في الفتنة وجود سلاسل النبوة وأغلال الرسالة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الفصل الأول

5494 - ( عن عبد الله بن عمر ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - ) : أفرد الضمير لكونه هو الأصل المروي عنه وذكر ابنه تبعا له ، وفي نسخة : عنهما ، وهو موهم أن يدخل فيه الخطاب ، وهو عدول عن الصواب ، ( انطلق مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ) أي : ذهب عمر معه ( في رهط ) : وهو ما دون العشرة من الرجال ، والمعنى في جملة جمع ( من أصحابه قبل ابن صياد ) : بكسر قاف وفتح موحدة أي : جانبه ( حتى وجدوه ) : قيل : حتى هنا حرف ابتداء يستأنف بعده الكلام ، ويفيد انتهاء الغاية ، وقوله : ( يلعب مع الصبيان ) حال من مفعول وجدوه ( وفي أطم بني مغالة ) : بفتح الميم ويضم والغين المعجمة ونقل بالضم والمهملة ، وهو قبيلة ، والأطم بضمتين القصر ، وكل حصن مبني بحجارة ، وكل بيت مربع مسطح ، الجمع آطام وأطوم ، كذا في القاموس . وقال النووي - رحمه الله تعالى : المشهور مغالة بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة . ( وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم ) : بضمتين ويسكن اللام أي : البلوغ بالاحتلام وغيره ( فلم يشعر ) : بضم العين ، وفيه إشعار بأنهم جاءوه على غفلة منه أي : لم يتفطن بمأتانا ، ( حتى ضرب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ظهره ) أي : ظهر ابن صياد ( بيده ) أي : الكريمة ، ( ثم قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( " أتشهد أني رسول الله ؟ " ، فنظر إليه ) أي : إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - نظر غضب أو غفلة ; ولذا لم يترتب عليه نضرة له كما قال تعالى : وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ، ( فقال أشهد أنك رسول الأميين ) . قال القاضي - رحمه الله : يريد بهم العرب ; لأن أكثرهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون ، وما ذكره وإن كان حقا من [ ص: 3485 ] قبل المنطوق ، لكنه يشعر بباطل من حيث المفهوم ، وهو أنه مخصوص بالعرب غير مبعوث إلى العجم ، كما زعمه بعض اليهود ، وهو إن قصد به ذلك فهو من جملة ما يلقي إليه الكاذب الذي يأتيه وهو شيطانه انتهى . ويمكن أن يكون مسموعه من اليهود لأنه منهم ، أو هذا منه على طريقة الحكماء في زعمهم أنهم يستغنون عن الأنبياء .

( ثم قال ابن صياد : أتشهد أني رسول الله ) ؟ يحتمل أنه أراد به الرسالة النبوية ، كما يدل عليه المقابلة الكلامية ، ويحتمل أنه أراد الرسالة اللغوية ; فإنه أرسل من عنده تعالى للفتنة والبلية ، ( فرصه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ) : بتشديد الصاد المهملة أي : ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض ، ومنه قوله تعالى : كأنهم بنيان مرصوص ، ذكره الخطابي . وقال النووي - رحمه الله : في أكثر نسخ بلادنا : فرفضه بالفاء والضاد المعجمة ، والمعنى : تركه وقطع سؤاله وجوابه وجداله من هذا الباب . وقال شارح : قوله : فرضه أي كسره ، وقيل : صوابه بالمهملة ، والمراد منه العصر والتضييق . ( ثم قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( " آمنت بالله وبرسله " ) .

قال الطيبي - رحمه الله : هو عطف على فرصه ، وثم للتراخي في الرتبة ، والكلام خارج على إرخاء العنان أي : آمنت بالله ورسله ، فتفكر هل أنت منهم ؟ انتهى . وفيه إيهام تجويز التردد في كونه من الرسل أم لا ، ولا يخفى فساده ، فالصواب أنه عمل بالمفهوم كما فعله الدجال ، فالمعنى : إني آمنت برسله وأنت لست منهم ، فلو كنت منهم لآمنت بك ، وهذا أيضا على الفرض والتقدير ، أو قبل أن يعلم أنه خاتم النبيين ، وإلا فبعد العلم بالخاتمة ، فلا يجوز أيضا الفرض والتقدير به ، وقد صرح بعض علمائنا بأنه لو ادعى أحد النبوة فطلب منه شخص المعجزة كفر ، وإنما لم يقتله - صلى الله تعالى عليه وسلم - مع أنه ادعى بحضرته النبوة ; لأنه صبي ، وقد نهى عن قتل الصبيان ، أو أن اليهود كانوا يومئذ مستمسكين بالذمة مصالحين أن يتركوا على أمرهم ، وهو منهم أو من حلفائهم ، فلم يكن ذمة ابن الصياد لتنقض بقوله الذي قال ، كذا قال بعض علمائنا من الشراح . وقال ابن الملك : وهذا يدل على أن عهد الوالد يجزئ عن ولده الصغير ، وقيل : إنه ما ادعى النبوة صريحا ; لأن قوله : أتشهد استفهام لا تصريح فيه ، وفيه تأييد لما قدمته من احتمال المعنى اللغوي في الرسالة .

( ثم قال لابن صياد : " ماذا ترى " ) ؟ ذا زائدة ، وما استفهامية ، أي : ما تبصر وتكاشف من الأمر الغيبي ، ( قال : يأتيني صادق ) أي : خبر صادق تارة ( وكاذب ) أي أخرى ، أو ملك صادق وشيطان كاذب ، وقيل : حاصل السؤال أن الذي يأتيك ما يقول لك ، ومجمل الجواب أنه يحدثني بشيء قد يكون صادقا ، وقد يكون كاذبا ، ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " خلط " ) : بصيغة المجهول مشددا للمبالغة والتكثير ، ويجوز تخفيفه أي شبه ( " عليك الأمر " ) أي : الكذب بالصدق . قال النووي - رحمه الله : أي ما يأتيك به شيطانك مخلط . قال الخطابي : معناه أنه كان له تارات يصيب في بعضها ويخطئ في بعضها ; فلذلك التبس عليه الأمر ، ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " إني خبأت " ) أي : أضمرت ( " لك " ) أي : في نفسي ( " خبيئا " ) أي : اسما مضمرا لتخبرني به . قال ابن الملك : وإنما امتحنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بذلك ; ليظهر إبطال حاله للصحابة ، وأنه كان يأتيه الشيطان فيلقي على لسانه ، ( وخبأ له : يوم تأتي السماء بدخان مبين ، الجملة حال بتقدير أو بدونه ( فقال : " هو الدخ " ) : بضم فتشديد ، وقيل : بالفتح ، وحكي الكسر أيضا ، ففي النهاية : الدخ بضم الدال وفتحها الدخان ; لأنه أراد بذلك يوم تأتي السماء بدخان مبين ، وقيل إن عيسى يقتل الدجال بجبل الدخان ، فيحتمل أن يكون أراده تعريضا لقتله . وفي القاموس : الدخ ويضم الدخان . أقول : ولو روي بضم الدال وتخفيف الخاء ، لكان له وجه في أنه رمز وإشارة إلى الدخان وتصريح بنقصان إدراكه ، كما هو دأب الكهان .

[ ص: 3486 ] وقال النووي - رحمه الله : وهو بضم الدال وتشديد الخاء المعجمة ، وهي لغة في الدخان ، ومعنى خبأت أضمرت لك اسم الدخان ، والصحيح المشهور أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - أضمر له آية الدخان ، وهي قوله تعالى : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . قال القاضي عياض - رحمه الله : وأصح الأقوال أنه لم يأت من الآية التي أضمرها النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلا بهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ، ويدل عليه ما ذكره الدارمي عنه .

( فقال : " اخسأ " ) : بفتح السين وسكون الهمزة كله زجر واستهانة أي : امكث صاغرا ، أو ابعد حقيرا واسكت مزجورا ، من الخسوء وهو زجر الكلب ، ( " فلن تعدوها " ) : بضم الدال أي : فلن تجاوز ( " قدرك " ) أي : القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء ، ذكره النووي . وقال الطيبي - رحمه الله : أي لا تتجاوز عن إظهار الخبيآت على هذا الوجه ، كما هو دأب الكهنة إلى دعوى النبوة ، فتقول : أشهد أني رسول الله . أقول : وحاصل الجملة وزبدة المسألة أنك وإن أخبرت عن الخبيء ، فلن تستطيع أن تجاوز عن الحد الذي حد لك ، يريد أن الكهانة لا ترفع بصاحبها عن القدر الذي عليه هو ، وإن أصاب في كهانته .

( قال عمر ) : فيه التفات أو تجريد ، ويمكن أن يكون ابن عمر مصاحبا لهم ، ويدل عليه ما بعده فقال : قال عمر : ( يا رسول الله ! أتأذن لي فيه ) أي : في حقه ( أضرب ) : وفي نسخة : فلأضرب ، وفي أخرى : أن أضرب ( عنقه ؟ قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " إن يكن هو " ) أي : الدجال ( " لا تسلط " ) : بصيغة المجهول مجزوما ، وفي نسخة بالرفع أي : لا تقدر ( " عليه " ) أي : على هلاكه ; لأن المقدر أن قاتله عيسى - عليه الصلاة والسلام - فيما سيأتي من الأيام ( " وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله " ) أي : لما قدمناه من كونه صغيرا أو ذميا ، أو كون كلامه محتملا ، أقول : وأوسطها أعدلها . قال ابن الملك - رحمه الله تعالى : ولما كان فيه قرائن دالة على كونه الدجال ، ذكر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الحديث بصورة الشد ، والله تعالى أعلم . قال القاضي : قوله : إن يكن هو الضمير للدجال ، ويدل عليه ما روي أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : إن يكن هو فلست صاحبه ; إنما صاحبه عيسى بن مريم ، وإلا يكن هو ، فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد ، وهو خبر كان ، واسمه مستكن فيه ، وكان حقه أن يكنه ، فوضع المرفوع المنفصل موضع المنصوب المتصل ، عكس قولهم : لولاه ، ويحتمل أن يكون تأكيدا للمستكن والخبر محذوفا على تقدير : إن يكن هو هذا . قال الطيبي - رحمه الله : ويجوز أن يقدر إن يكن هو الدجال ، وهو ضمير فصل أو هو مبتدأ ، والدجال خبره ، والجملة خبر كان انتهى . وعلى الأخير يكون في يكن ضمير الشأن كما لا يخفى .

( قال ابن عمر : انطلق بعد ذلك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بن كعب الأنصاري ) : بالرفع للعطف ، ويجوز النصب للمعية ( يؤمان النخل ) : من أمه يؤمه إذا قصده أي : يقصدان النخيل ( التي فيها ) أي فيما بينها أو في بستانها ( ابن صياد ، فطفق ) : بكسر الفاء أي : شرع ( رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يتقي ) أي : يستر نفسه ( بجذوع النخل ) أي : ويتخبأ عن ابن صياد ; ليأخذه على غرة وغفلة ، فإن تلك الحالة أدل على بطلان الرهبان ، ( وهو ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( يختل ) : بسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقية من الختل ، وهو طلب الشيء بحيلة والمفعول محذوف ، أي : يخدع ابن صياد ( أن يسمع ) أي : ليسمع ( من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ) أي : يعلم هو وأصحابه حاله في أنه كاهن أم ساحر ونحوهما .

[ ص: 3487 ] قال النووي - رحمه الله : وفيه جواز كشف أحوال ما يخاف مفسدته وكشف الأمور المبهمة بنفسه ، ( وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة ) أي : دثار مخمل ، وقيل لحاف صغير ، ( له فيها زمزمة ) .

قال النووي - رحمه الله : هو في معظم نسخ مسلم بزاءين معجمتين ، وفي بعضها برائين مهملتين ، ووقع في البخاري بالوجهين ، وهو صوت خفي لا يكاد يفهم أو لا يفهم . قال شارح : هي صوت لا يفهم منه شيء وهو في الأصل صوت الرعد . ( فرأت أم ابن صياد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل . فقالت : أي ) : للنداء ( صاف - ) : بالضم ، وفي نسخة بالكسر على أن أصله صافي ، فحذف الياء واكتفي بالكسرة ، ويؤيد الأول ظاهر قوله : ( وهو اسمه - ) : ويمكن أن يكون الاسم بمعنى الوصف ، فإنه قد يستعمل بالمعنى الأعم من نحو اللقب والعلم ( هذا ) أي : وراءك ( محمد ) ، أو جاءك فتنبه له ، ( فتناهى ابن صياد ) أي : انتهى عما كان فيه من الزمزمة وسكت . ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " لو تركته " ) أي : أمه ( " بين " ) أي أظهر ما في نفسه ، كذا في شرح السنة . قال النووي - رحمه الله : أي بين لكم باختلاف كلامه ما يهون عليكم شأنه .

( قال عبد الله بن عمر ) : الظاهر أن ما سيأتي حديث آخر ذكره استطرادا ; ولذا لم يأت بعاطفة ، وقال : ( قام رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال : " إني أنذركموه ، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه " ) أي : بعد نوح ، ( " لقد أنذر نوح قومه " ) أي : قبل الأنبياء ، ( " ولكنني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ، تعلمون " ) : خبر بمعنى الأمر أي : اعلموا ( " أنه أعور ، وأن الله " ) : بالفتح للعطف ، وبالكسر على أن الجملة حالية ( " ليس بأعور " ) أي : لا بالأمر البديهي في التنزيه الإلهي . قال التوربشتي - رحمه الله : يحتمل أن أحدا من الأنبياء لم يكاشف أو يخبر بأنه أعور ، ويحتمل أنه أخبر ، ولم يقدر له أن يخبر عنه كرامة لنبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى يكون هو الذي يبين بهذا الوصف دحوض حجته الداحضة ويبصر بأمره جهال العوام ، فضلا عن ذوي الألباب والأفهام .

وفي شرح مسلم للنووي قالوا : قصته مشكلة ، وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال أم غيره ؟ ولا شك أنه دجال من الدجاجلة . قالوا : وظاهر الأحاديث أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره ، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال ، وكان لابن صياد قرائن محتملة ; فلذلك كان - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره ; ولهذا قال لعمر - رضي الله تعالى عنه : لا يولد الدجال وقد ولد له ، وأن لا يدخل مكة والمدينة ، وابن صياد قد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة ، فلا دلالة فيه ; لأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض .

قال الخطابي : واختلف السلف في أمره بعد كبره ، فروي عنه أنه تاب من ذلك القول ، ومات بالمدينة ، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى يراه الناس ، وقيل لهم : اشهدوا . قال : وكان ابن عمر وجابر يحلفان أن ابن صياد هو الدجال لا يشكان فيه ، فقيل لجابر : إنه أسلم ، فقال : وإن أسلم ، فقيل : إنه دخل مكة وكان بالمدينة ، فقال : وإن دخل . وروى أبو داود بإسناد صحيح عن جابر قال : فقدنا ابن صياد يوم الحرة ، وهذا يبطل رواية من روى أنه مات بالمدينة وصلي عليه ، وقد روى مسلم في هذه الأحاديث أن جابرا حلف بالله تعالى أن ابن صياد هو الدجال ، وأنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - يحلف ذلك عند النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم ينكره .

[ ص: 3488 ] قال البيهقي في كتابه " البعث والنشور " : اختلفوا في أمر ابن صياد اختلافا كثيرا هل هو الدجال أم لا ، فمن ذهب إلى أنه غيره احتج بحديث تميم الداري في قصة الجساسة ، ويجوز أن يتوافق صفة ابن صياد وصفة الدجال ، كما ثبت في الصحيح أنه أشبه الناس بالدجال عبد العزى بن قطن ، وليس هو هو . قال : وكان أمر ابن صياد فتنة ابتلى الله بها عباده ، فعصم الله تعالى منها المسلمين ووقاهم شرها . قال : وليس في حديث تميم ، هذا كلام البيهقي ، قد اختار أنه غيره ، وقدمنا أنه صح عن ابن عمر وجابر أنه الدجال ، فإن قيل : لم يقتله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مع أنه ادعى بحضرته النبوة ؟ فالجواب من وجهين ، ذكرهما البيهقي وغيره ، أحدهما : أنه كان غير بالغ ، واختار القاضي عياض - رحمه الله - هذا الجواب ، والثاني أنه كان في أيام مهادنة اليهود وحلفائهم ، وجزم الخطابي بالجواب الثاني ، قال : لأن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد قدومه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتاب الصلح ، على أن يتركوا على حالهم ، وكان ابن صياد منهم أو دخيلا فيهم .

قال الخطابي : وأما امتحان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بما خبأه له من آية الدخان ; فلأنه كان يبلغه ما يدعيه من الكهانة ويتعاطاه من الكلام في الغيب ، فامتحنه ليعلم حقيقة حاله ، ويظهر إبطال حاله للصحابة ، فإنه كاهن ساحر يأتيه الشيطان ، فيلقي على لسانه ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة فامتحنه ، ثم قال : فلن تعدو قدرك ، أي : لا تتجاوز قدرك وقدر أمثالك من الكهان الذين يحفظون من إلقاء الشيطان كلمة واحدة من جملة كثيرة ، بخلاف الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإنه يوحي الله تعالى إليهم من علم الغيب ما يوحي ; فيكون واضحا جليا كاملا ، وبخلاف ما يلهم الله الأولياء من الكرامات ، والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) ، ورواه أبو داود ، والترمذي .




الخدمات العلمية