الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 317 ] الركن الثالث : الموقوف عليه ، وهو قسمان .

                                                                                                                                                                        [ القسم ] الأول : أن يكون شخصا معينا ، أو جماعة معينين ، فشرطه أن يمكن تمليكه ، فيجوز الوقف على ذمي من مسلم وذمي ، كما تجوز الوصية له ، ولا يصح الوقف على الحربي والمرتد على الأصح ، لأنهما لا دوام لهما .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا يصح الوقف على من لا يملك ، كالجنين ، ولا يصح على العبد نفسه ، قال جماعة : هذا تفريع على قولنا : لا يملك . فإن ملكناه ، صح الوقف عليه . وإذا عتق ، كان له دون سيده ، وعلى هذا قال المتولي : لو وقف على عبد فلان وملكناه ، صح وكان الاستحقاق متعلقا بكونه عبد فلان ، حتى لو باعه أو وهبه ، زال الاستحقاق . ولك أن تقول : الخلاف في أنه هل يملك مخصوص بما إذا ملكه السيد ؟ فأما إذا ملكه غيره ، فلا يملك بلا خلاف ، وحينئذ إذا كان الواقف غير السيد ، كان الوقف على من لا يملك . أما إذا أطلق الوقف عليه ، فهو وقف على سيده . كما لو وهب له ، أو أوصى له ، وإذا شرطنا القبول ، جاء خلاف في استقلاله به ، كالخلاف في أنه هل يستقل بقبول الهبة والوصية ، وقد سبق في باب معاملات العبيد .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو وقف على مكاتب ، قال الشيخ أبو حامد : لا يصح كالوقف على القن . وقال المتولي : يصح في الحال وتصرف الفوائد إليه ، ونديم حكمه إذا عتق إن [ ص: 318 ] أطلق الوقف . وإن قال : تصرف الفوائد إليه ما دام مكاتبا ، بطل استحقاقه . وإن عجز ، بان لنا أن الوقف منقطع الابتداء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        وقف على بهيمة وأطلق ، هل هو كالوقف على العبد حتى يكون وقفا على مالكها ؟ وجهان . أصحهما : لا ، لأنها ليست أهلا بحال . ولهذا لا تجوز الهبة لها والوصية .

                                                                                                                                                                        والثاني : نعم . واختار القاضي أبو الطيب أنه يصح وينفق عليها منه ما بقيت ، وعلى هذا ، فالقبول لا يكون إلا من المالك . وحكى المتولي في قوله : وقفت على علف بهيمة فلان ، أو بهائم القرية ، وجهين كصورة الإطلاق ، قال : والخلاف فيما إذا كانت البهيمة مملوكة . فلو وقف على الوحوش ، أو علف الطيور المباحة ، فلا يصح بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في وقف الإنسان على نفسه وجهان . أصحهما : بطلانه ، وهو المنصوص . والثاني : يصح ، قاله الزبيري . وحكى ابن سريج أيضا ، وحكى عنه ابن كج : أنه يصح الوقف ، ويلغو شرطه ، وهذا بناء على أنه إذا اقتصر على قوله : وقفت ، صح ، وينبغي أن يطرد في الوقف على من لا يجوز مطلقا . ولو وقف على الفقراء ، وشرط أن تقضى من غلة الوقف زكاته وديونه ، فهذا وقف على نفسه وغيره ففيه الخلاف . وكذلك لو شرط أن يأكل من ثماره ، أو ينتفع به ولو استبقى [ الواقف ] لنفسه التولية ، وشرط أجرة ، وقلنا : لا يجوز أن يقف على نفسه ، ففي صحة هذا الشرط وجهان كالوجهين في الهاشمي هل يجوز أن يأخذ سهم العاملين إذا عمل على الزكاة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 319 ] قلت : الأرجح هنا جوازه . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : ويتقيد ذلك بأجرة المثل ، ولا يجوز الزيادة إلا من أجاز الوقف على نفسه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو وقف على الفقراء ، ثم صار فقيرا ، ففي جواز أخذه وجهان إذا قلنا : لا يقف على نفسه ، لأنه لم يقصد نفسه وقد وجدت الصفة ، ويشبه أن يكون الأصح الجواز ، ورجح الغزالي المنع ، لأن مطلقه ينصرف إلى غيره . واعلم أن للواقف أن ينتفع بأوقافه العامة كآحاد الناس ، كالصلاة في بقعة جعلها مسجدا ، والشرب من بئر وقفها ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                        قلت : ومن هذا النوع ، لو وقف كتابا على المسلمين للقراءة فيه ونحوها ، أو قدرا للطبخ فيها ، أو كيزانا للشرب بها ونحو ذلك ، فله الانتفاع معهم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو قال لرجلين : وقفت على أحدكما ، لم يصح ، وفيه احتمال عن الشيخ أبي محمد . القسم الثاني : الوقف على غير معين ، كالفقراء والمساكين ، وهذا يسمى وقفا على الجهة ، لأن الواقف يقصد جهة الفقر والمسكنة ، لا شخصا بعينه ، فينظر في الجهة ، إن كانت على المعصية ، كعمارة الكنيسة وقناديلها وحصرها ، وكتب التوراة والإنجيل ، لم يصح ، سواء وقفه مسلم أو ذمي ، فنبطله إذا ترافعوا إلينا . أما ما وقفوه قبل المبعث على كنائسهم القديمة ، فنقره حيث نقر الكنائس . ولو وقف لسلاح قطاع الطريق ، أو لآلات سائر المعاصي ، فباطل قطعا . وإن لم تكن جهة معصية ، نظر ، فإن ظهر فيه قصد القربة ، كالوقف على المساكين ، وفي سبيل الله تعالى ، والعلماء والمتعلمين ، [ ص: 320 ] والمساجد والمدارس والربط والقناطر ، صح الوقف . وإن لم يظهر القربة ، كالوقف على الأغنياء ، فوجهان ، بناء على أن المرعي بالوقف على الموصوفين جهة القربة ، أم التمليك ؟ فحكى الإمام عن المعظم : أنه القربة ، ولهذا لا يجب استيعاب المساكين ، بل يجوز الاقتصار على ثلاثة منهم . وعن القفال أنه قال : التمليك كالوصية وكالوقف على المعين ، وهذا الوجه اختيار الإمام وشيخه ، وطرق العراقيين توافقه ، حتى ذكروا أن الوقف على المساجد والربط ، تمليك المسلمين منفعة الوقف . فإن قلنا بالأول ، لم يصح الوقف على الأغنياء واليهود والنصارى والفساق ، والأصح : الجميع .

                                                                                                                                                                        ويجوز أن يخرج على هذا الأصل ، الخلاف في صحة الوقف على قبيلة كالعلوية وغيرهم ممن لا ينحصر فيهم . في صحته قولان كالوصية لهم فإن راعينا القربة ، صح ، وإلا ، فلا ، لتعذر الاستيعاب ، والأشبه بكلام الأكثرين ترجيح كونه تمليكا ، وتصحيح الوقف على هؤلاء .

                                                                                                                                                                        ولهذا صحح صاحب " الشامل " الوقف على النازلين في الكنائس من مارة أهل الذمة وقال : هو وقف عليهم ، لا على الكنيسة ، لكن الأحسن توسط لبعض المتأخرين ، وهو تصحيح الوقف على الأغنياء ، وإبطاله على اليهود والنصارى وقطاع الطريق وسائر الفساق ، لتضمنه الإعانة على المعصية .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية