الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 3 ) ) .

قوله تعالى : ( الذين يؤمنون ) هو في موضع جر صفة للمتقين ، ويجوز أن يكون في موضع نصب ، إما على موضع للمتقين ، أو بإضمار أعني .

ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمارهم ، أو مبتدأ وخبره ( أولئك على هدى ) . وأصل ( يؤمنون ) يؤأمنون ; لأنه من الأمن ، والماضي منه آمن ، فالألف بدل من همزة ساكنة قلبت ألفا كراهية اجتماع همزتين ، ولم يحققوا الثانية في موضع ما لسكونها ، وانفتاح ما قبلها . ونظيره في الأسماء : آدم ، آخر .

فأما في المستقبل فلا تجمع بين الهمزتين اللتين هما الأصل ; لأن ذلك يفضي بك في المتكلم إلى ثلاث همزات : الأولى همزة المضارعة ، والثانية همزة أفعل التي في آمن ، [ ص: 22 ] والثالثة الهمزة التي هي فاء الكلمة ، فحذفوا الوسطى كما حذفوها في أكرم ; لئلا تجتمع الهمزات ، وكان حذف الوسطى أولى من حذف الأولى ; لأنها حرف معنى ، ومن حذف الثالثة : لأن الثالثة فاء الكلمة : والوسطى زائدة .

وإذا أردت تبيين ذلك فقل : إن آمن أربعة أحرف ، فهو مثل دحرج ، فلو قلت : أدحرج لأتيت بجميع ما كان في الماضي وزدت عليه همزة المتكلم ، فمثله يجب أن يكون في أومن ، فالباقي من الهمزات : الأولى ، والواو التي بعدها مبدلة من الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمة ، والهمزة الوسطى هي المحذوفة ، وإنما قلبت الهمزة الساكنة واوا لسكونها وانضمام ما قبلها ، فإذا قلت " نؤمن ، وتؤمن ، ويؤمن ، جاز لك فيه وجهان : أحدهما : الهمز على الأصل .

والثاني : قلب الهمزة واوا تخفيفا ، وحذفت الهمزة الوسطى حملا على أومن ، والأصل يؤأمن ، فأما أومن فلا يجوز همز الثانية بحال لما ذكرنا .

و ( الغيب ) هنا : مصدر بمعنى الفاعل أي يؤمنون بالغائب عنهم .

ويجوز أن يكون بمعنى المفعول ; أي المغيب كقوله : ( هذا خلق الله ) [ لقمان : 11 ] ; أي مخلوقه . ودرهم ضرب الأمير أي مضروبه .

قوله عز وجل : ( ويقيمون ) أصله يؤقومون ، وماضيه أقام ، وعينه واو ; لقولك فيه يقوم ، فحذفت الهمزة كما حذفت في أقيم لاجتماع الهمزتين ، وكذلك جميع ما فيه حرف مضارعة لئلا يختلف باب أفعال المضارعة . وأما الواو فعمل فيها ما عمل في نستعين ، وقد ذكرناه . وألف الصلاة منقلبة عن واو لقولك صلوات . والصلاة مصدر صلى . ويراد بها هاهنا الأفعال والأقوال المخصوصة ، فلذلك جرت مجرى الأسماء غير المصادر .

قوله تعالى : ( ومما رزقناهم ) : من متعلقة بـ ( ينفقون ) ، والتقدير : وينفقون مما رزقناهم ; فيكون الفعل قبل المفعول كما كان قوله ( يؤمنون ) و ( يقيمون ) كذلك ، وإنما أخر الفعل عن المفعول لتتوافق رءوس الآي . وما بمعنى الذي ، ورزقنا يتعدى إلى مفعولين ، وقد حذف الثاني منهما هنا ، وهو العائد على ما ، تقديره رزقناهموه ، أو رزقناهم إياه .

[ ص: 23 ] ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة بمعنى شيء ; أي ومن مال رزقناهم ; فيكون رزقناهم في موضع جر صفة لما . وعلى القول الأول لا يكون له موضع ; لأن الصلة لا موضع لها ولا يجوز أن تكون ما مصدرية ; لأن الفعل لا ينفق ومن للتبعيض ويجوز أن تكون لابتداء غاية الإنفاق .

وأصل ( ينفقون ) يؤنفقون ; لأن ماضيه أنفق ، وقد تقدم نظيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية