الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الطرف الثالث في كيفية الإزالة .

والنجاسة إن كانت حكمية وهي التي ليس لها جرم محسوس فيكفي إجراء الماء على جميع مواردها وإن كانت عينية فلا بد من إزالة العين وبقاء الطعم يدل على بقاء العين وكذا بقاء اللون إلا فيما يلتصق به فهو معفو عنه بعد الحت والقرص .

أما الرائحة فبقاؤها يدل على بقاء العين ولا يعفى عنها إلا إذا كان الشيء له رائحة فائحة يعسر إزالتها فالدلك والعصر مرات متواليات يقوم مقام الحت والقرص في اللون والمزيل للوسواس أن يعلم أن الأشياء خلقت طاهرة بيقين فما لا يشاهد عليه نجاسة ولا يعلمها يقينا يصلي معه ولا ينبغي أن يتوصل بالاستنباط إلى تقدير النجاسات .

.

التالي السابق


ثم لما فرغ المصنف من ذكر المزال به والمزال شرع يذكر في الإزالة فقال (الطرف الثالث في كيفية الإزالة) اعلم أولا أن الشيء النجس ينقسم إلى نجس العين وغيره، أما نجس العين فلا يطهر بحال إلا الخمر تطهر بالتخلل وجلد الميتة يطهر بالدباغ، والعلقة والمضغة والدم الذي هو حشو البيض إذا حشيناها فاستحالت حيوانا، وأما غيره فأشار المصنف إليه بقوله: (والنجاسة إن كانت حكمية) فقد قسمها إلى اثنين حكمية وعينية، فإن كانت حكمية (وهي التي ليس لها جرم محسوس) كالبول إذا جف على المحل ولم توجد له رائحة ولا أثر (فيكفي إجراء الماء على جميع مواردها) ونص الوجيز على موردها; إذ ليس ثم ما يزال ولا يجب في الإجراء عدد خلافا لأبي حنيفة حيث شرط في إزالة النجاسة الحكمية الغسل ثلاثا في رواية، وفي رواية الشرط أن يغلب على ظن الغاسل طهارته ولا حد حيث قال في إحدى الروايتين: يشترط الغسل سبعا في جميع النجاسات، كما في نجاسة الكلب نقله الرافعي، قلت: وهذا هو المشهور عن أحمد سواء كانت النجاسة في السبيلين أو في غيرهما، وعنه رواية ثانية أنه يجب غسل سائر النجاسات ثلاثا سواء كانت في السبيلين أو غيرهما وعنه رواية ثالثة إن كانت في السبيلين فثلاث، وإن كانت في غير السبيلين فسبعا، وعنه رواية رابعة إن كانت في السبيلين أو في غير البدن وجب العدد، وكان الواجب سبعا، وإن كانت في البدن فقد روي عنه أنه قال: وإذا أصاب جسده فهو أسهل، والخلال يخطئ راويها، وعنه رواية خامسة، وهو إسقاط العدد فيما عدا الكلب والخنزير كذا في اختلاف الفقهاء لابن هبيرة الوزير وللشافعي قوله صلى الله عليه وسلم: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء، وأمر بالغسل من غير اعتبار عدد، (وإن كانت عينية فلا) يكفي فيها إجراء الماء بل (لا بد من) محاولة (إزالة العين) أي أوصافها الثلاثة اللون والطعم والرائحة أو ما وجد منها (وبقاء الطعم يدل على بقاء العين) ، وفي الوجيز: فإن بقي طعم لم تطهر; لأن إزالته سهلة، قال الرافعي: إن بقي طعم لم يطهر سواء هي مع غيره من الصفات أو وحده; لأن الطعم سهل الإزالة (وكذا بقاء اللون) أي إن لم يبق الطعم نظر إن بقي اللون وحده، وكان سهل الإزالة فلا يطهر (إلا فيما يلتصق به) كدم الحيض يصيب الثوب وربما لا يزول (فهو معفو عنه بعد) المبالغة والاستعانة (بالحت والقرص) بالصاد المهملة، وروي بالمعجمة أيضا، وهكذا هو بالوجهين في الحديث، وفي المصباح قال الأزهري: الحت [ ص: 335 ] أن يحك بطرف عود أو حجر، والقرص أن يدلك بأطراف الأصابع والأظافر دلكا شديدا ويصب عليه الماء حتى تزول عينه وأثره، وأخرج أحمد وأبو داود في رواية ابن الأعرابي من حديث خولة بنت يسار قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض، فقال: اغسليه. فقلت: غسلته فبقي أثره، فقال: يكفيك ولا يضرك أثره. (وأما الرائحة فبقاؤها) أي إن بقيت الرائحة، وهي عسرة الإزالة كرائحة الخمر فهل يطهر المحل؟ فيه قولان وقيل وجهان، أحدهما لا; لأن بقاء الرائحة (يدل على بقاء العين) فصار كالطعم، وهذا هو القياس في اللون، لكن منعتنا عنه الأخبار (ولا يعفى عنها) والثاني، وهو الأصح أنه يطهر; لأنا إنما احتملنا بقاء اللون لمكان المشقة في إزالته، وهذا المعنى موجود في الرائحة، وروي في اللون أيضا وجه أنه لا يطهر المحل ما دام باقيا، ذكره في التتمة وتبعه إمام الحرمين إلى صاحب التلخيص، وإن بقي اللون والرائحة معا فلا يطهر المحل لقوة دلالتهما على بقاء العين، ثم إن قوله فهو معفو عنه بعد الحت والقرص فيه بحثان: الأول الاستعانة بالحت والقرص هل هو شرط أم لا؟ ظاهر كلامه يقتضي الاشتراط، وبه يشعر نقل بعضهم، لكن الذي نص عليه المعظم خلافه، واحتجوا عليه بحديث خولة واقتصروا على الاستحباب، الثاني لم قال معفو عنه، ولم يقل فهو طاهر؟ أهو نجس لكن يعفى عنه أم كيف الحال؟ أطلق الأكثرون القول بالطهارة، ويجوز أن يقال: إنه نجس، لكن يعفى عنه كما في أثر محل الاستنجاء ودم البراغيث، وليس في الأخبار تصريح بالطهارة، وإنما يقتضي العفو والمسامحة، وقد تعرض في التتمة لمثل هذا في الرائحة فقال: إن قلنا: لا يطهر فهو معفو عنه كدم البراغيث، وقد أشار المصنف إلى هذا فقال: (إلا إذا كان لشيء له رائحة فائحة تعسر إزالتها) أي فيعفى عنه (فالدلك والعصر) مع إجراء الماء على الثوب (مرات متواليات يقوم مقام الحت والقرص في) إزالة (اللون) ، وهذا الذي أشار إليه المصنف في الوجيز بقوله: ثم لم يستحب الاستظهار بغسله ثانية وثالثة، وفي وجوب العصر وجهان، وإن وجب العصر ففي الاكتفاء بالجفاف وجهان قال الرافعي في شرحه: الاستطهار بالطاء طلب الطهارة، ويجوز بالظاء المشالة بمعنى الاحتياط، وقد رويا جميعا ولغرض أن التثليث مستحب في إزالة النجاسة، كما في رفع الحدث، وإنما يتأدى الاستحباب إذا وقعت المرة الثانية أو الثالثة بعد زوال النجاسات، أما الغسلات المحتاج إليها لإزالة العين فلا بد منها، واستحباب الاستطهار يشمل النجاسة الحكمية والعينية، وأما مسألة العصر فقد اختلفوا في حصول الطهارة قبله على وجهين وبنوهما على أن الغسالة طاهرة أو نجسة، فعلى الأول فلا حاجة إلى العصر، وهو الأصح، وعلى الثاني فلا بد منه وعلى هذا فهل يكتفى بالجفاف فيه وجهان أصحهما نعم، ثم ذكر المصنف في الوجيز فروعا سبعة: الأول إذا ورد الثوب النجس على ماء قليل ينجس الماء ولم يطهر الثوب على الأظهر .

والثاني: إذا أصاب الأرض بول فأفيض عليه الماء حتى صار مغلوبا ونضب الماء طهر، وكذا إذا لم ينضب إذا حكمنا بطهارة الغسالة، فإن العصر لا يجب قال الرافعي: وفيه خلاف لأبي حنيفة قال: لا تطهر الأرض حتى يحفر إلى الموضع الذي وصلت النداوة إليه وينقل التراب .

والثالث: اللبن المعجون بالماء النجس يطهر إذا نضب فيه الماء الطهور، فإن طبخ طهر ظاهره بإفاضة الماء عليه دون باطنه .

والرابع: بول الصبي قبل أن يطعم يكفي فيه رش الماء فلا يجب الغسل بخلاف الصبية وفيه خلاف لمالك وأبي حنيفة، وقد تقدمت الإشارة إليه .

والخامس: ولوغ الكلب يغسل سبعا إحداهن بالتراب خلافا لأبي حنيفة حيث قال: حكمه حكم سائر النجاسات ولأحمد حيث قال: في رواية ثمان مرات قلت: وقال مالك: يغسل من ولوغه تعبدا لا لنجاسته، ويراق الماء استحبابا ولا يراق ما ولغ فيه من سائر المائعات، ثم قال المصنف: وعرقه وسائر أجزائه كاللعاب، وفي إلحاق الخنزير به قولان، والأظهر أنه لا يقوم الصابون والأشنان مقام التراب ولا الغسلة الثانية، ولو كان التراب نجسا أو مزج بالخل ففيه وجهان قلت: وقد سبق التفصيل في لعاب الكلب عند أصحابنا فراجعه .

والسادس: سؤر الهر الطاهر، فإن أكلت فأرة، ثم ولغت في ماء قليل ففيه ثلاثة أوجه والأحسن تعميم العفو للحاجة قال الرافعي: وهو خلاف ما صححه معظم الأصحاب، وقال النووي [ ص: 336 ] غير الماء من المائعات كالماء .

والسابع: غسالة النجاسة إن تغير فهو نجس، وإن لم يتغير حكمه حكم المحل بعد الغسل إن طهر فطاهر، وفي القديم هو طاهر على كل حال ما لم يتغير وقيل: حكمه حكم المحل قبل الغسل وتظهر فائدته في رشاش الغسلة الثانية من ولوغ الكلب. انتهت الفروع السبعة، والكلام على كل فرع منها طويل فراجع الشرح .

ثم قال المصنف: (والمزيل للوسواس) العارض في إزالة النجاسات (أن يعلم أن الأشياء) من أصلها (خلقت طاهرة بيقين) وأن النجاسات عارضة عليها (فما لا نشاهد عليه نجاسة) مرئية (ولا نعلمها يقينا) بإخبار صادق ثوبا كان أو غيره (نصلي معه) ولا نشك في طهارته إبقاء على الأصل (ولا ينبغي أن يتوصل بالاستنباطات) ، وفي نسخة بالاستنباط، وهو الاستخراج بالاجتهاد (إلى تقدير النجاسات) بل يقف فيما أخبر به الشارع ولا يتجاوز عن الحد وبه تم بيان القسم الأول في طهارة الأخباث .




الخدمات العلمية