الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط .

                                                          إن الإيمان قوة الجهاد، وإخلاص النية لله تعالى هي خشيته، والمؤمنون كانوا يجاهدون طالبين مرضاة الله ومحبته، وكانوا يصبرون ويصابرون، وقد حثهم الله على طاعته ورسوله، وأن يمتنعوا عن النزاع، وقد جنبهم أن يكونوا كالمشركين الذين يحاربون مفاخرين، قد بطروا معيشتهم، ولا يهمهم إلا المراءاة بالقتال، والصد عن سبيل الله; ولذا قال تعالى: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس البطر كفر النعمة والتقوية بها على معاصي الله، والاستعلاء بها على الناس، والرئاء مصدر راءى يرائي، يقصد به الظهور أمام الناس مفاخرا مباهيا، لا يقصد به رفع حق ولا خفض باطل، ولا إغاثة ملهوف، ولا نصرة مظلوم، بل يقصد الغلب لمجرد الغلب، وقد خرجوا من ديارهم لهذا الغرض وهو البطر ورئاء الناس، ولذا قالوا: إن بطرا ورئاء الناس مفعولان لأجله، أي العلة الباعثة للخروج من ديارهم هي البطر والمفاخرة والاستعلاء على الناس، وإذا كان لهم غرض آخر يظهر من أعمالهم، فهو الصد عن سبيل الله تعالى باستعلائهم، وإرهاب الناس، [ ص: 3152 ] وبيان أن لهم القوة في بلاد العرب، فيرهبهم المؤمن ويخافهم من يريد الإيمان، وبذلك يصدون الناس ويدفعونهم عن سبيل الله تعالى - وهو الصراط المستقيم - وسبيل الحق.

                                                          ومعنى النهي عن مشابهتهم بهؤلاء في قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله أن يخرجوا من المدينة لأجل الحق ونصرته، لا للبطر والاستعلاء والمفاخرة.

                                                          ولقد كان المشركون قد خرجوا لذلك، أو انتهى الأمر في خروجهم في بدر إلى تمحض لذلك، لقد خرجوا ليحموا عيرهم، ولكن أبا سفيان انفلت بالعير عن طريق بدر، وعبر بها سيف البحر، وقد أرسل إليهم بنجاة العير، وكان حقا عليهم أن يعودوا أدراجهم إذ قد نجت عيرهم، وسلمت أموالهم، فذهب الباعث على خروجهم، وعاد بنو زهرة منهم، وتلكأ الباقون من عقلائهم، وترددوا وأرادوا حقن الدماء، وقالوا: نقاتل أبناء عمومتنا من غير حاجة إلى قتال؟! وغلب رأي السفهاء منهم، ووقف " أبو الحكم " الذي سمي في التاريخ الإسلامي " أبا جهل " وقال: "والله لا نرجع عن قتال محمد، حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بمخرجنا، فتهابنا آخر الأبد" وقد انساقت قريش وراء هذا الناعب، فكانت المعركة ولم يشربوا الخمر، بل ذاقوا كأس المنون، وكان الحمام بدل المدام، وناحت عليهم النواحي بدل غناء القيان.

                                                          ونرى أنهم ما اضطروا إلى الحرب، بل بطر النقمة، والاستعلاء بالقوة، والصد عن سبيل الله، وأن يكون الشرك هو الغالب، مع أن الله تعالى هو القاهر.

                                                          وقد بين الله قدرته وأنه القاهر فوقهم، فقال تعالى في ختام الآية الكريمة: والله بما يعملون محيط وصدر الجملة السامية بلفظ الجلالة لبيان قدرة الله العالية وتربية المهابة في نفوسهم، وقدم بما يعملون لبيان اختصاصه سبحانه بالعلم بما يعمله وإحاطته، والجملة السامية تهديد لهم؛ لأن هذا العلم الجزاء الوفاق لعملهم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية