الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  25 [ ص: 179 ] 1 - حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، قال: حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد، قال: سمعت أبي يحدث، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  معنى الحديث مطابق لمعنى الآية، فلذلك قرن بينهما، وتعلقهما بكتاب الإيمان بجعلهما بابا من أبوابه، هو أن يعلم منه أن من آمن صار معصوما، وأن يعلم أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة من جملة الإيمان على ما ذهب إليه.

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله، وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان، هو المسندي، بضم الميم، وفتح النون، وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أبو روح، بفتح الراء، وسكون الواو، وهو كنيته، واسمه الحرمي، بفتح الحاء، والراء المهملتين، وكسر الميم، وتشديد الياء آخر الحروف، وهو اسمه بلفظ النسبة تثبت فيه الألف واللام، وتحذف كما في مكي بن إبراهيم، وهو ابن عمارة، بضم العين المهملة، وتخفيف الميم ابن أبي حفصة، واسم أبي حفصة نابت بالنون، وقيل: بالثاء المثلثة، والأول أشهر، وقيل: اسمه عبيد العتكي مولاهم البصري سمع شعبة وغيره، روى عنه عبيد الله بن عمر القواريري، وعنه مسلم، وعلي بن المديني، وعبد الله المسندي عند البخاري، توفي سنة إحدى ومائتين، روى له الجماعة إلا الترمذي، وقال يحيى بن معين: صدوق، ووهم الكرماني في هذا في موضعين: أحدهما أنه جعل الحرمي نسبة، وليس هو بمنسوب إلى الحرم أصلا; لأنه بصري الأصل والمولد، والمنشأ والمسكن، والوفاة، والآخر أنه جعل اسم جده اسمه حيث قال أبو روح كنيته، واسمه نابت، وحرمي نسبته، والصواب ما ذكرناه، والمسمى بحرمي أيضا اثنان حرمي بن حفص العتكي، روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وحرمي بن يونس المؤدب، روى له النسائي.

                                                                                                                                                                                  الثالث: شعبة بن الحجاج.

                                                                                                                                                                                  الرابع: واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمرو، وواقد أخو أبي بكر، وعمر، وزيد، وعاصم، وكلهم رووا عن أبيهم محمد، ومحمد أبوهم هذا، روى عن جده عبد الله، وعن ابن عباس، وعبد الله بن الزبير. قال أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين: واقد هذا ثقة، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وواقد هذا بالقاف، وليس في الصحيحين وافد بالفاء.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبوه محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وروى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  السادس: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث، والعنعنة، والسماع.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن في رواية ابن عساكر: حدثنا عبد الله بن محمد المسندي بزيادة المسندي. وفي رواية الأصيلي: عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه رواية الأبناء عن الآباء، وهو كثير، لكن رواية الشخص، عن أبيه، عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه، عن جد أبيه.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن إسناد هذا الحديث غريب تفرد بروايته شعبة عن واقد، قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه الحرمي المذكور، وعبد الملك بن الصباح، وهو عزيز، عن الحرمي، تفرد به عنه المسندي، وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة، وابن حبان، والإسماعيلي وغيرهم، وهو غريب عن عبد الملك، تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به. الحديث، وأخرجه مسلم أيضا، وأخرجه البخاري أيضا من حديث أنس رضي الله عنه كما سيأتي في الصلاة، وأخرجه مسلم أيضا من حديث جابر، والحديث المذكور أخرجه مسلم أيضا من هذا الوجه، ولم يقل: إلا بحق الإسلام.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات): قوله: " أمرت " على صيغة المجهول، والأمر هو قول القائل لمن دونه: افعل، على سبيل الاستعلاء، وقال [ ص: 180 ] الكرماني: وأصح التعاريف للأمر هو القول الطالب للفعل، وليس كذلك على ما لا يخفى، والأمر في الحقيقة، هو المعنى القائم في النفس، فيكون قوله: " افعل " عبارة عن الأمر المجازي تسمية للدال باسم المدلول.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ويقيموا الصلاة " معنى إقامة الصلاة إما تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها، وسننها، وآدابها من أقام العود إذا قومه، وإما المداومة عليها من قامت السوق إذا نفقت، وإما التجلد والتشمر في أدائها من قامت الحرب على ساقها، وإما أداؤها تعبيرا عن الأداء بالإقامة; لأن القيام بعض أركانها والصلاة هي العبادة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ويؤتوا الزكاة " ، أي: يعطوها، والزكاة هي القدر المخرج من النصاب للمستحق.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عصموا " ، أي: حفظوا وحقنوا، ومعنى العصم في اللغة المنع، ومنه العصام، وهو الخيط الذي تشد به فم القربة سمي به لمنعه الماء من السيلان. وقال الجوهري: العصمة الحفظ، يقال: عصمه فانعصم، واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية، وعصم يعصم عصما بالفتح إذا اكتسب، وقال بعضهم: العصمة مأخوذة من العصام، وهو الخيط الذي يشد به فم القربة. قلت: هذا القائل قلب الاشتقاق، وإنما العصام مشتق من العصمة; لأن المصادر هي التي يشتق منها، ولم يقل بهذا إلا من لم يشم رائحة علم الاشتقاق والدماء جمع دم، نحو: جمال، جمع جمل إذ أصل دم دمو بالتحريك، وقال سيبويه: أصله دمي على فعل بالتسكين; لأنه يجمع على دماء ودمى، مثل: ظباء وظبى، ودلو ودلاء ودلى. قال: ولو كان مثل قفا، وعصى لما جمع على ذلك، وقال المبرد: أصله فعل بالتحريك، وإن جاء جمعه مخالفا لنظائره، والذاهب منه الياء، والدليل عليها قولهم في تثنيته دميان.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب): قوله: " أمرت " جملة من الفعل والمفعول النائب عن الفاعل، وقعت مقولا للقول.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن أقاتل " أصله بأن أقاتل، وحذف الباء الجارة من أن كثير سائغ مطرد، وأن مصدرية تقديره مقاتلة الناس.

                                                                                                                                                                                  قوله: " حتى يشهدوا " ، كلمة " حتى " هاهنا للغاية بمعنى إلى. فإن قلت: غاية لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون غاية للقتال، ويجوز أن يكون غاية للأمر به.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يشهدوا " منصوب بأن المقدرة إذ أصله أن يشهدوا، وعلامة النصب سقوط النون; لأن أصله يشهدون.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن لا إله إلا الله " أصله بأن لا إله إلا الله، والدليل عليه ما جاء في الرواية الأخرى حتى يقولوا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأن محمدا " عطف على أن لا إله إلا الله، والتقدير: وحتى يشهدوا أن محمدا رسول الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ويقيموا " عطف على يشهدوا أيضا، وأصله: وحتى أن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فإذا " للظرف، لكنه يتضمن معنى الشرط.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ذلك " في محل النصب على أنه مفعول فعلوا، وهو إشارة إلى ما ذكر من شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتذكير الإشارة باعتبار المذكور.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عصموا " جملة من الفعل، والفاعل جواب لإذا، وقوله: " دماءهم " مفعول الجملة، و" أموالهم " عطف عليه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إلا بحق الإسلام " استثناء مفرغ، والمستثنى منه أعم عام الجار والمجرور، والعصمة متضمنة لمعنى النفي حتى يصح تفريغ الاستثناء إذ هو شرطه، أي: لا يجوز إهدار دمائهم، واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحق الإسلام، والتحقيق فيه أن الاستثناء المفرغ لا يكون إلا في النفي. وقال ابن مالك بجوازه في كل موجب في معنى النفي، نحو: صمت إلا يوم الجمعة، إذ معناه لم أفطر، والتفريغ إما في نهي صريح كقوله تعالى: ولا تقولوا على الله إلا الحق أو فيما هو بمعناه كالشرط في قوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال وإما في نفي صريح كقوله تعالى: وما محمد إلا رسول أو فيما هو بمعناه كقوله تعالى: فهل يهلك إلا القوم الفاسقون

                                                                                                                                                                                  ثم الإضافة في " بحق الإسلام " يجوز أن تكون بمعنى اللام، ويجوز أن تكون بمعنى من، وبمعنى في على ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وحسابهم " كلام إضافي مبتدأ، و" على الله " خبره، والمعنى وحسابهم بعد هذه الأشياء على الله في أمر سرائرهم.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني والبيان): قوله: " أمرت " أقيم فيه المفعول مقام الفاعل لشهرة الفاعل، ولتعينه بذلك إذ لا آمر للرسول صلى الله عليه وسلم غير الله تعالى، والتقدير: أمرني الله تعالى بأن أقاتل الناس، وكذلك إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، يفهم منه أن الآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم; إذ لا آمر بينهم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم; لأنه هو المشرع، وهو المبين، وأما إذا قال التابعي: أمرنا بكذا، فإن ذلك محتمل. وقال الكرماني: إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا فهم منه أن الرسول عليه السلام هو الآمر له، فإن من اشتهر بطاعة رئيسه إذا قال ذلك فهم منه أن الرئيس [ ص: 181 ] أمره به، وفائدة العدول عن التصريح دعوى اليقين، والتعويل على شهادة العقل، وقال بعضهم: وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إنهم مجتهدون، والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له ذلك الرئيس. قلت: أخذ كلام الكرماني، وقلب معناه; لأن الكرماني جعل قوله: " فإن من اشتهر بطاعة رئيس إلى آخره علة لقوله: فهم منه أن الرسول عليه السلام، هو الآمر له، وهذا القائل أوقع هذه العلة حاملا وداعيا، وهو عكس المقصود، وقوله أيضا من حيث إنهم مجتهدون لا دخل له في الكلام; لأن الحيثية تقع قيدا، وهذا القيد غير محتاج إليه هاهنا; لأنا قلنا: إن الصحابي إذا قال: " أمرت " معناه أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إنه، هو الآمر بينهم، وهو المشرع، وليس المعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إني مجتهد، وهذا كلام في غاية السقوط.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أقاتل الناس " إنما ذكر باب المفاعلة التي وضعت لمشاركة الاثنين; لأن الدين إنما ظهر بالجهاد، والجهاد لا يكون إلا بين اثنين، والألف واللام في الناس للجنس يدخل فيه أهل الكتاب الملتزمين لأداء الجزية. قلت: هؤلاء قد خرجوا بدليل آخر، مثل: حتى يعطوا الجزية، ونحوه، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: " أمرت أن أقاتل المشركين ". قال الكرماني: والناس قالوا: أريد به عبدة الأوثان دون أهل الكتاب; لأن القتال يسقط عنهم بقبول الجزية. قلت: فعلى هذا تكون اللام للعهد، ولا عهد إلا في الخارج، والتحقيق ما قلنا، ولهذا قال الطيبي: هو من العام الذي خص منه البعض; لأن القصد الأولى من هذا الأمر حصول هذا المطلوب لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فإذا تخلف منه أحد في بعض الصور لعارض لا يقدح في عمومه، ألا ترى أن عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط المقاتلة، وتثبت العصمة، قال: ويجوز أن يعبر بمجموع الشهادتين، وفعل الصلاة، والزكاة، عن إعلاء كلمة الله تعالى، وإذعان المخالفين، فيحصل في بعضهم بذلك، وفي بعضهم بالجزية، وفي الآخرين بالمهادنة. قال: وأيضا الاحتمال قائم في أن ضرب الجزية كان بعد هذا القول. قلت: بل الظاهر أن الحديث المذكور متقدم على مشروعية أخذ الجزية، وسقوط القتال بها، فحينئذ تكون اللام للجنس كما ذكرنا، وأيضا المراد من وضع الجزية أن يضطروا إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فيكون التقدير: حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ولكنه اكتفى بما هو المقصود الأصلي من خلق الخلائق، وهو قوله عز وجل: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ". أو نقول: إن المقصود هو القتال أو ما يقوم مقامه، وهو أخذ الجزية أو المقصود هو الإسلام منهم أو ما يقوم مقامه في دفع القتال، وهو إعطاء الجزية، وكل هذه التأويلات لأجل ما ثبت بالإجماع سقوط القتال بالجزية، فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فإذا فعلوا ذلك " قد قلنا: إن ذلك مفعول فعلوا. فإن قلت: المشار إليه بعضه قول فكيف إطلاق الفعل عليه. قلت: إما باعتبار أنه عمل اللسان، وإما على سبيل التغليب للاثنين على الواحد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وحسابهم على الله " على سبيل التشبيه، أي: هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع، وذلك أن لفظة على مشعرة بالإيجاب في عرف الاستعمال، ولا يجب على الله شيء، وكأن الأصل فيه أن يقال: وحسابهم لله أو إلى الله. وأما عند المعتزلة فهو ظاهر; لأنهم يقولون بوجوب الحساب عقلا، والمعنى أن أمور سرائرهم إلى الله تعالى، وأما نحن فنحكم بالظاهر فنعاملهم بمقتضى ظاهر أقوالهم وأفعالهم أو معناه هذا القتال، وهذه العصمة إنما هو من الأحكام الدنيوية، وهو مما يتعلق بنا، وأما الأمور الأخروية من دخول الجنة والنار، والثواب والعقاب، وكميتهما، وكيفيتهما فهو مفوض إلى الله تعالى لا دخل لنا فيها.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الأحكام) وهو على وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: قال النووي: يستدل بالحديث على أن تارك الصلاة عمدا معتقدا وجوبها يقتل، وعليه الجمهور. قلت: لا يصح هذا الاستدلال; لأن المأمور به هو القتال، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل; لأن باب المفاعلة يستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولا كذلك القتل فافهم.

                                                                                                                                                                                  ثم اختلف أصحاب الشافعي: هل يقتل على الفور أم يمهل ثلاثة أيام الأصح الأول، والصحيح أنه يقتل بترك صلاة واحدة إذا خرج وقت الضرورة لها، وأنه يقتل بالسيف، وهو مقتول حدا. وقال أحمد في رواية أكثر أصحابه عنه: تارك الصلاة عمدا يكفر، ويخرج من الملة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، فعلى هذا له حكم المرتد فلا يغسل، ولا يصلى عليه، وتبين منه امرأته، وقال أبو حنيفة والمزني: يحبس إلى أن يحدث توبة، ولا يقتل، ويلزمهم أنهم احتجوا به على قتل تارك الصلاة عمدا، ولم يقولوا بقتل مانع الزكاة مع أن [ ص: 182 ] الحديث يشملها، ومذهبهم أن مانع الزكاة تؤخذ منه قهرا، ويعزر على تركها. وسئل الكرماني هاهنا عن حكم تارك الزكاة، ثم أجاب بأن حكمهما واحد، ولهذا قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، فإن أراد أن حكمهما واحد في المقاتلة فمسلم، وإن أراد في القتل فممنوع; لأن الممتنع من الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا بخلاف الصلاة أما إذا انتصب صاحب الزكاة للقتال لمنع الزكاة فإنه يقاتل، وبهذه الطريقة قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا، ولو ترك صوم رمضان حبس، ومنع الطعام والشراب نهارا; لأن الظاهر أنه ينويه; لأنه معتقد لوجوبه كما ذكر في كتب الشافعية.

                                                                                                                                                                                  الثاني: قال النووي: يستدل به على وجوب قتال مانعي الصلاة والزكاة، وغيرهما من واجبات الإسلام قليلا كان أو كثيرا. قلت: فعن هذا قال محمد بن الحسن: إن أهل بلدة أو قرية إذا اجتمعوا على ترك الأذان فإن الإمام يقاتلهم، وكذلك كل شيء من شعائر الإسلام.

                                                                                                                                                                                  الثالث: فيه أن من أظهر الإسلام، وفعل الأركان يجب الكف عنه، ولا يتعرض له.

                                                                                                                                                                                  الرابع: فيه قبول توبة الزنديق، ويأتي إن شاء الله تعالى في المغازي قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أشق على قلوب الناس، ولا عن بطونهم ". الحديث بطوله جوابا لقول خالد رضي الله عنه: ألا أضرب عنقه؟ فقال عليه السلام: لعله يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس بقلبه. ولأصحاب الشافعي رحمه الله في الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ويعلم ذلك بأن يطلع الشهود على كفر كان يخفيه، أو علم بإقراره خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                  أحدها: قبول توبته مطلقا، وهو الصحيح المنصوص عن الشافعي، والدليل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أفلا شققت عن قلبه ".

                                                                                                                                                                                  والثاني: وبه قال مالك: لا تقبل توبته ورجوعه إلى الإسلام، لكنه إن كان صادقا في توبته نفعه ذلك عند الله تعالى، وعن أبي حنيفة روايتان كالوجهين، والثالث: إن كان من الدعاة إلى الضلال لم تقبل توبتهم، وتقبل توبة عوامهم.

                                                                                                                                                                                  والرابع: إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل، وإن جاء تائبا ابتداء، وظهرت مخائل الصدق عليه قبلت، وحكي هذا القول عن مالك، وممن حكاه عبد الواحد السفاقسي قال: قال مالك: لا تقبل توبة الزنديق إلا إذا كان لم يطلع عليه، وجاء تائبا فإنه تقبل توبته.

                                                                                                                                                                                  والخامس: إن تاب مرة قبلت منه، وإن تكررت منه التوبة لم تقبل، وقال صاحب (التقريب) من أصحابنا: روى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة في الزنديق الذي يظهر الإسلام، قال: أستتيبه كالمرتد، وقال أبو يوسف مثل ذلك زمانا، فلما رأى ما يصنع الزنادقة من إظهار الإسلام، ثم يعودون قال: إن أتيت بزنديق أمرت بقتله، ولم أستتبه، فإن تاب قبل أن أقتله خليته، وروى سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة رحمه الله في نوادر له قال: قال أبو حنيفة: اقتلوا الزنديق المستتر فإن توبته لا تعرف.

                                                                                                                                                                                  الخامس: قالوا: فيه دليل على أن الاعتقاد الجازم كاف في النجاة خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، وجعله شرطا في الإسلام، وهو كثير من المعتزلة. وقول بعض المتكلمين: وقال النووي: قد تظاهرت الأحاديث الصحيحة التي يحصل من عمومها العلم القطعي بأن التصديق الجازم كاف.

                                                                                                                                                                                  قال الإمام المقترح: اختلف الناس في وجوب المعرفة على الأعيان، فذهب قوم إلى أنها لا تجب، وقوم إلى وجوبها، وادعى كل واحد من الفريقين الإجماع على نقيض ما ادعى مخالفه، واستدل النافون بأنه قد ثبت من الأولين قبول كلمتي الشهادة من كل ناطق بها، وإن كان من البله والمغفلين، ولم يقل له: هل نظرت أو أبصرت، واستدل المثبتون من الأولين الأمر بها مثل ابن مسعود وعلي، ومعاذ رضي الله عنهم، وأجابوا عن الأول: بأن كلمتي الشهادة مظنة العلم والحكم في الظاهر يدار على المظنة، وقد كان الكفرة يذبون عن دينهم، وما رجعوا إلا بعد ظهور الحق، وقيام علم الصدق، والمقصود إخلاص العبد فيما بينه وبين الله تعالى، فلا بد أن يكون على بصيرة من أمره، ولقد كانوا يفهمون الكتاب العربي فهما، وافيا بالمعاني، والكتاب العزيز مشتمل على الحجج والبراهين. قلت: وهذا الثاني هو مختار إمام الحرمين، والإمام المقترح، والأول مختار الأكثرين، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  السادس: فيه اشتراط التلفظ بكلمتي الشهادة في الحكم بالإسلام، وأنه لا يكف عن قتالهم إلا بالنطق بهما.

                                                                                                                                                                                  السابع: فيه عدم تكفير أهل الشهادة من أهل البدع.

                                                                                                                                                                                  الثامن: فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر.

                                                                                                                                                                                  التاسع: فيه دليل على أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده إنما كان على الظاهر، والحساب على السرائر إلى الله تعالى دون خلقه، وإنما جعل إليهم ظاهر أمره دون خفيه.

                                                                                                                                                                                  العاشر: أن هذا الحديث مبين، ومقيد لما جاء من الأحاديث المطلقة، منها ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه، ومناظرته مع أبي [ ص: 183 ] بكر رضي الله عنه في شأن قتال مانعي الزكاة، وفيه: فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني دمه وماله إلا بحقه، وحسابهم على الله، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فانتقال أبي بكر رضي الله عنه إلى القياس، واعتراض عمر رضي الله عنه عليه أولى دليل على أنه خفي عليهما، وعلى من حضرهما من الصحابة رضي الله عنهم حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور كما خفي عليهم حديث جزية المجوس، وشأن الطاعون; لأنه لو استحضروه لم ينتقل أبو بكر رضي الله عنه إلى القياس، ولم ينكر عمر رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه. قلت: ومن هذا؟ قال بعضهم في صحة حديث ابن عمر المذكور نظر; لأنه لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. " ولما انتقل من الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة; لأنها قرينتها في كتاب الله عز وجل، وأجيب عن ذلك بأنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر رضي الله عنهما أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد، وقالوا: لم يستدل أبو بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل استدل أيضا من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكره: " إلا بحق الإسلام ". قال أبو بكر رضي الله عنه: والزكاة حق الإسلام، وقالوا أيضا: لم ينفرد ابن عمر رضي الله عنه بالحديث المذكور، بل رواه أبو هريرة رضي الله عنه بزيادة الصلاة والزكاة فيه كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. قلت: في القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ويطلع عليها آحادهم.

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر فيه أن من أتى بالشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وإن كان لا يؤاخذ لكونه معصوما لكنه يؤاخذ بحق من حقوق الإسلام من نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف، ونحو ذلك، وقال الكرماني: إلا بحق الإسلام من قتل النفس، وترك الصلاة، ومنع الزكاة. قلت: قوله: "من قتل النفس لا خلاف فيه أن عصمة دمه تزول عند قتل النفس المحرمة" . وأما قوله: "وترك الصلاة" فهو بناء على مذهبه، وأما قوله: " ومنع الزكاة " ليس كذلك فإن مذهب الشافعي أن مانع الزكاة لا يقتل، ولكنه يؤخذ منه قهرا، وأما إذا انتصب للقتال فإنه يقاتل بلا خلاف، وقد بيناه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر: فيه وجوب قتال الكفار إذا أطاقه المسلمون حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهلها.

                                                                                                                                                                                  (الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل: إذا شهد وأقام وأدى فمقتضى الحديث أن يترك القتال، وإن كفر بسائر ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكنه ليس كذلك، وأجيب بأن الشهادة برسالته تتضمن التصديق بما جاء به مع أنه يحتمل أنه ما جاء بسائر الأشياء إلا بعد صدور هذا الحديث أو علم ذلك بدليل آخر خارجي كما جاء في الرواية الأخرى: " ويؤمنوا بي وبما جئت به ".

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: لم نص على الصلاة والزكاة مع أن حكم سائر الفرائض كحكمهما؟ وأجيب لكونهما أمي العبادات البدنية، والمالية، والعيار على غيرهما، والعنوان له، ولذلك سمى الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: إذا شهدوا عصموا، وإن لم يقيموا، ولم يؤتوا إذ بعد الشهادة لا بد من الانكفاف عن القتال في الحال، ولا تنتظر الإقامة، والإيتاء ولا غيرهما، وكان حق الظاهر أن يكتفي بقوله: " إلا بحق الإسلام " فإن الإقامة والإيتاء منه، وأجيب بأنه إنما ذكرهما تعظيما لهما، واهتماما بشأنهما، وإشعارا بأنهما في حكم الشهادة أو المراد ترك القتال مطلقا مستمرا لا ترك القتال في الحال الممكن إعادته بترك الصلاة والزكاة، وذلك لا يحصل إلا بالشهادة وإيتاء الواجبات كلها.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية