الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 705 ] كتاب العتق

                                        425 - الحديث الأول : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من أعتق شركا له في عبد ، فكان له مال يبلغ ثمن العبد : قوم عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        الأول : صيغة " من " للعموم فيقتضي دخول أصناف المعتقين في الحكم المذكور ، ومنهم المريض ، وقد اختلف في ذلك فالشافعية يرون أنه إن خرج من الثلث جميع العبد قوم عليه نصيب الشريك ، وعتق عليه ; لأن تصرف المريض في ثلثه : كتصرف الصحيح في كله ، ونقل أحمد : أنه لا يقوم في حال المريض ، وذكر قاضي الجماعة - أبو الوليد بن رشد المالكي عن ابن الماجشون من المالكية - فيمن أعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه في المرض : أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إلا من رأس ماله ، إن صح ، وإن لم يصح : لم يقوم في الثلث على حال ، وعتق منه حظه وحده ، والعموم كما ذكرنا يقتضي التقويم ، وتخصيصه بما يحتمله [ ص: 706 ] الثلث : مأخوذ من الدليل الدال على اختصاص تصرف المريض بالتبرعات في الثلث .

                                        الثاني : العموم يدخل فيه المسلم والكافر ، وللمالكية تصرف في ذلك فإن كان الشريكان ، والعبد كفارا : لم يلزموا بالتقويم ، وإن كانا مسلمين ، والعبد كافرا : فالتقويم ، وإن كان أحدهما مسلما ، والآخر كافرا فإن أعتق المسلم كمل عليه ، كان العبد مسلما أو ذميا ، وإن أعتق الكافر فقد اختلفوا في التقويم على ثلاثة مذاهب : الإثبات ، والنفي ، والفرق بين أن يكون العبد مسلما فيلزم التقويم ، وبين أن يكون ذميا ، فلا يلزم ، وإن كانا كافرين والعبد مسلما فروايتان ، وللحنابلة أيضا وجهان فيما إذا أعتق الكافر نصيبه من مسلم ، وهو موسر : هل يسري إلى باقيه ؟ وهذا التفصيل الذي ذكرناه يقتضي تخصيص صور من هذه العمومات :

                                        أحدها : إذا كان الجميع كفارا ، وسببه : ما دل عندهم على عدم التعرض للكفار في خصوص الأحكام الفرعية . وثانيها : إذا كان المعتق هو الكافر ، على مذهب من يرى أن لا تقويم ، أو لا تقويم إذا كان العبد كافرا فأما الأول : فيرى أن المحكوم عليه بالتقويم هو الكافر ، ولا إلزام له بأحكام فروع الإسلام .

                                        وأما الثاني : فيرى أن التقويم إذا كان العبد مسلما لتعلق حق العتق بالمسلم ، وثالثها : إذا كانا كافرين ، والعبد مسلما على قول ، وسببه ما ذكرناه من تعلق حق المسلم بالعتق ، واعلم أن هذه التخصيصات : إن أخذت من قاعدة كلية لا مستند فيها إلى نص معين ، فتحتاج إلى الاتفاق عليها ، وإثبات تلك القاعدة بدليل وإن استندت إلى نص معين ، فلا بد من النظر في دلالته مع دلالة هذا العموم ، ووجه الجمع بينهما أو التعارض .



                                        الثالث : إذا أعتق أحدهما نصيبه ، ونصيب شريكه مرهون ، ففي السراية إلى نصيب الشريك اختلاف لأصحاب الشافعي ، وظاهر العموم : يقتضي التسوية بين المرهون ، وغيره ، ولكنه ظاهر ، ليس بالشديد القوة ; لأنه خارج عن المعنى المقصود بالكلام ; لأن المقصود : إثبات السراية إلى نصيب الشريك على المعتق [ ص: 707 ] من حيث هو كذلك ، لا مع قيام المانع ، فالمخالف لظاهر العموم : يدعي قيام المانع من السراية ، وهو إبطال حق المرتهن ، ويقويه بأن تناول اللفظ لصور قيام المانع غير قوي ; لأنه غير المقصود ، والموافق لظاهر العموم : يلغي هذا المعنى بأن العتق قد قوي على إبطال حق المالك في العين بالرجوع إلى القيمة فلأن يقوى على إبطال حق المرتهن كذلك أولى ، وإذا ألغي المانع عمل اللفظ العام عمله .



                                        الرابع : كاتبا عبدا ثم أعتق أحدهما نصيبه : فيه من البحث ما قدمناه من أمر العموم ، والتخصيص بحالة عدم المانع ، والمانع ههنا : صيانة الكتابة عن الإبطال ، وههنا زيادة أمر آخر ، وهو أن يكون لفظ " العبد " عند الإطلاق متناولا للمكاتب ، ولا يكتفي في هذا بثبوت أحكام الرق عليه ; لأن ثبوت تلك الأحكام لا يلزم منه تناول لفظ " العبد له عند الإطلاق متناولا للمكاتب ولا يكتفي في هذا بثبوت أحكام الرق عليه فإن ذلك حكم لفظي يؤخذ من غلبة استعمال اللفظ ، وقد لا يغلب الاستعمال وتكون أحكام الرق ثابتة ، وهذا المقام إنما هو في إدراج هذا الشخص تحت هذا اللفظ ، وتناول اللفظ له أقرب .



                                        الخامس : إذا أعتق نصيبه ، ونصيب شريكه مدبر : فيه ما تقدم من البحث ، وتناول اللفظ ههنا أقوى من المكاتب ، ولهذا كان الأصح من قولي الشافعي عند أصحابه : أنه يقوم عليه نصيب الشريك والمانع ههنا : إبطال حق الشريك من قربة مهد سبيلها .



                                        السادس : أعتق نصيبه من جارية ، ثبت الاستيلاد في نصيب شريكه منها فالمانع من إعمال العموم ههنا : أقوى مما تقدم ; لأن السراية تتضمن نقل الملك ، وأم الولد لا تقبل نقل الملك من ملك إلى ملك عند من يمنع من بيعها ، وهذا أصح وجهي الشافعية ، ومن يجري على العموم يلغي هذا المانع ، بأن الإعتاق وسرايته كالإتلاف ، وإتلاف أم الولد يوجب القيمة ، ويكون التقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات ، وذلك يقتضي التخصيص بصدور أمر يجعله إتلافا .



                                        السابع : العموم يقتضي أن لا فرق بين عتق مأذون فيه ، أو غير مأذون ، وفرق الحنفية بين الإعتاق المأذون فيه ، وغير المأذون فيه ، وقالوا : لا ضمان في [ ص: 708 ] إعتاق المأذون فيه ، كما لو قال لشريكه : أعتق نصيبك .



                                        الثامن : قوله عليه السلام " أعتق " يقتضي صدور العتق منه ، واختياره له فيثبت الحكم حيث كان مختارا ، وينتفي حيث لا اختيار ، إما من حيث المفهوم ، وإما لأن السراية على خلاف القياس فتختص بمورد النص ، وإما لإبداء معنى مناسب يقتضي التخصيص بالاختيار ، وهو أن التقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات ، وذلك يقتضي التخصيص بصدور أمر يجعل إتلافا ، وههنا ثلاث مراتب : مرتبة لا إشكال في وقع الاختيار فيها ، ومرتبة لا إشكال في عدم الاختيار فيها ، ومرتبة مترددة بينهما . أما المرتبة الأولى : فإصدار الصيغة المقتضية للعتق بنفسها ، ولا شك في دخولها في مدلول الحديث . وأما المرتبة الثانية : فمثالها : ما إذا ورث بعض قريبه ، فعتق عليه ذلك البعض فلا سراية ، ولا تقويم عند الشافعية ، ونص عليه أيضا بعض مصنفي متأخري المالكية والحنفية ، لعدم الاختيار في العتق وسببه معا ، وعن أحمد : رواية أنه يعتق عليه نصيب الشريك ، إذا كان موسرا ، ومن أمثلته : أن يعجز المكاتب نفسه بعد أن اشترى شقصا يعتق على سيده فإن الملك والعتق يحصل بغير اختيار السيد فهو كالإرث .

                                        وأما المرتبة الثالثة الوسطى : فهي ما إذا وجد سبب العتق باختياره ، وهذا أيضا تختلف رتبه : فمنه ما يقوى فيه تنزيل مباشرة السبب منزلة مباشرة المسبب ، كقوله لبعض قريبه في بيع أو هبة أو ، وصية ، وقد نزله الشافعية منزلة المباشر ، وقد نص عليه أيضا بعض المالكية في الشراء ، والهبة وينبغي أن يكون من ذلك : تمثيله بعبده ، وعند من يرى العتق بالمثلة ، وهو مالك وأحمد ، ومنه ما يضعف عن هذا ، وهو تعجيز السيد المكاتب ، بعد أن اشترى شقصا ممن يعتق على سيده فانتقل إليه الملك بالتعجيز الذي هو سبب العتق ، فإنه لما اختاره كان كاختياره لسبب العتق بالشراء وغيره ، وفيه اختلاف لأصحاب الشافعي ، ووجه ضعف هذا عن الأول : أنه لم يقصد التملك ، وإنما قصد التعجيز ، وقد حصل الملك فيه ضمنا ، إلا أن هذا ضعيف ، والأول أقوى .



                                        التاسع : الحديث يقتضي الاختيار في العتق ، وقد نزلوا منزلته : الاختيار في [ ص: 709 ] سبب العتق على الوجه الذي قدمناه ، ولا يدخل تحته اختيار ما يوجب الحكم عليه بالعتق ففرق بين اختياره ما يوجب العتق في نفس الأمر ، وبين اختياره ما يوجبه ظاهرا ، فعلى هذا إذا قال أحد الشريكين لصاحبه : قد أعتقت نصيبك - وهما معسران عند هذا القول - ثم اشترى أحدهما نصيب صاحبه فإنه يحكم بعتق النصيب المشترى ، مؤاخذة للمشتري بإقراره ، وهل يسري إلى نصيبه ؟ مقتضى ما قررناه : أن لا يسري ; لأنه لم يختر ما يوجب العتق في نفس الأمر ، وإنما اختار ما يوجب الحكم به ظاهرا ، وقال بعض الفقهاء من الحنابلة : يعتق جميعه ، وهو ضعيف .



                                        العاشر : الظاهر أن المراد بالعتق عتق التنجيز ، وأجرى الفقهاء مجراه : التعليق بالصفة ، مع وجود الصفة ، وأما العتق إلى أجل فاختلف المالكية فيه فالمنقول عن مالك وابن القاسم : أنه يقوم عليه الآن فيعتق إلى أجل ، وقال سحنون : إن شاء المتمسك قوم الساعة ، فكان جميعه حرا إلى سنة مثلا ، وإن شاء تماسك وليس له بيعه قبل السنة ، إلا من شريكه ، وإذا تمت السنة : قوم على مبتدئ العتق عند التقويم .

                                        الحادي عشر : " الشرك " في الأصل هو مصدر لا يقبل العتق ، وأطلق على متعلقه وهو المشترك ، ومع هذا لا بد من إضمار ، تقديره " جزء مشترك " أو ما يقارب ذلك ; لأن المشترك في الحقيقة : هو جملة العين ، أو الجزء المعين منها إذا أفرد بالتعيين ، كاليد والرجل مثلا ، وأما النصيب المشاع : فلا اشتراك فيه

                                        الثاني عشر : يقتضي الحديث : أن لا يفرق في الجزء المعتق بين القليل والكثير ، لأجل التنكير الواقع من سياق الشرط .



                                        الثالث عشر : إذا أعتق عضوا معينا - كاليد والرجل - اقتضى الحديث ثبوت الحكم المذكور فيه . وخلاف أبي حنيفة في الطلاق جار ههنا . وتناول اللفظ لهذه الصورة : أقوى من تناوله للجزء المشاع ، على ما قررناه ; لأن الجزء الذي أفرد بالعتق مشترك حقيقة .



                                        الرابع عشر : يقتضي أن يكون المعتق جزءا من المشترك فيتصدى النظر فيما إذا أعتق الجنين : هل يسري إلى الأم ؟ .



                                        [ ص: 710 ] الخامس عشر : قوله صلى الله عليه وسلم " له " يقتضي أن يكون العتق منه مصادفا لنصيبه كقوله : أعتقت نصيبي من هذا العبد ، فعلى هذا لو قال : أعتقت نصيب شريكي : لم يؤثر في نصيبه ، ولا في نصيب الشريك على المذهبين . فلو قال للعبد الذي يملك نصفه " نصفك حر " أو أعتقت نصفك ، فهل يحمل على النصف المختص به ، أو يحمل على النصف شائعا ؟ فيه اختلاف لأصحاب الشافعي ، وعلى كل حال فقد عتق : إما كل نصيبه ، أو بعضه فهو داخل تحت الحديث .



                                        السادس عشر : هذه الرواية تقتضي ثبوت هذا الحكم في العبد ، والأمة مثله ، وهو بالنسبة إلى هذا اللفظ : قياس في معنى الأصل الذي لا ينبغي أن ينكره منصف . غير أنه قد ورد ما يقتضي دخول الأمة في اللفظ فإنهم اختلفوا في الرواية فقال القعنبي : عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " في مملوك " ، وكذلك جاء في رواية أيوب عن نافع ، وأما عبيد الله عن نافع : فاختلفوا عليه ففي رواية أسامة ، وابن نمير عنه " في مملوك " كما في رواية القعنبي عن مالك ، وفي رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله " في عبد " ، وفي بعض هذه الروايات عموم . وجاء ما هو أقوى من ذلك في رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر { أنه كان يرى في العبد والأمة يكون بين الشركاء ، فيعتق أحدهما نصيبه منه ، يقول : قد وجب عليه عتقه كله ، وفي آخر الحديث يخبر بذلك ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم } ، وكذلك جاء في رواية صخر بن جويرية عن نافع " بذكر العبد والأمة " قريبا مما ذكرناه من رواية موسى ، وفي آخره " رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم " .



                                        السابع عشر : قوله صلى الله عليه وسلم " ، وكان له مال " إن كان بالفاء " فكان له مال " اقتضى ذلك أن يكون اليسار معتبرا في وقت العتق ، وإن كان بالواو " وكان " احتمل أن يكون للحال فيكون الأمر كذلك .

                                        الثامن عشر : قوله صلى الله عليه وسلم " له مال " يخرج عنه من لا مال له ، وبه قال الشافعية فيما إذا أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موت فأعتق بعد موته فلا سراية ، وإن خرج كله من الثلث ; لأن المال ينتقل بالموت إلى الوارث ، ويبقى الميت لا مال له ولا يقوم على من لا يملك شيئا وقت نفوذ العتق في نصيبه ، وكذلك لو كان يملك كل العبد فأوصى بعتق جزء منه فأعتق منه : لم يسر ، وكذا لو [ ص: 711 ] دبر أحد الشريكين نصيبه فقال : إذا مت فنصيبي منك حر ، وكل هذا جار على ما ذكرناه عند من قال به ، وظاهر المذهب عند المالكية فيمن قال : إذا مت فنصيبي منك حر : أنه لا يسري وقيل : إنه يقوم في ثلثه ، وجعله موسرا بعد الموت .



                                        التاسع عشر : أطلق " الثمن " في هذه الرواية ، والمراد القيمة فإن " الثمن " ما اشتريت به العين وإنما يلزم بالقيمة لا بالثمن وقد تبين المراد في رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله " ما يبلغ ثمنه يقوم عليه قيمة عدل " ، وفي رواية عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه { أيما عبد كان بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فإن كان موسرا ، فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة - أو قال - قيمة ، ولا ، وكس ، ولا شطط ، وفي رواية أيوب من كان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل ، وفي رواية موسى يقام ، وماله قيمة العدل ، } وفي هذا ما يبين : أن المراد بالثمن القيمة .

                                        العشرون : قوله صلى الله عليه وسلم " ما يبلغ ثمن العبد " يقتضي تعليق الحكم في مال يبلغ ثمن العبد فإذا كان المال لا يبلغ كمال القيمة ولكن قيمة بعض النصيب ، ففي السراية وجهان لأصحاب الشافعي فيمكن أن يستدل به من لا يرى السراية بمفهوم هذا اللفظ ، ويؤيده بأن في السراية تبعيضا لملك الشريك عليه ، والأصح عندهم : السراية إلى القدر الذي هو موسر به ، تحصيلا للحرية بقدر الإمكان ، والمفهوم في مثل هذا ضعيف .

                                        الحادي والعشرون : إذا ملك ما يبلغ كمال القيمة ، إلا أن عليه دينا يساوي ذلك ، أو يزيد عليه : فهل يثبت الحكم في السراية ، والتقويم ؟ فيه الخلاف الذي في منع الدين الزكاة ، ووجه الشبه بينهما : اشتراكهما في كونهما حقا لله ، مع أن فيهما حقا للآدمي ، ويمكن أن يستدل بالحديث من لا يرى الدين مانعا ههنا ، أخذا بالظاهر ، ومن يرى الدين مانعا : يخصص هذه الصورة بالمانع الذي يقيمه فيها خصمه . والمالكية على أصلهم : في أن من عليه دين بقدر ماله : فهو معسر .

                                        والثاني والعشرون : يقتضي الخبر أنه مهما كان للمعتق ما يفي بقيمة نصيب شريكه : فيقوم عليه ، وإن لم يملك غيره هذا الظاهر ، والشافعية أخرجوا قوت يومه ، وقوت من تلزمه نفقته ، ودست ثوب ، وسكنى يوم ، والمالكية اختلفوا فقيل : باعتبار قوت الأيام ، وكسوة ظهره ، كما في الديون التي عليه ، ويباع منزله الذي يسكن فيه وشوار بيته ، وقال أشهب منهم : إنما يترك له ما يواريه لصلاته .



                                        [ ص: 712 ] الثالث والعشرون : اختلف العلماء في وقت حصول العتق عند وجود شرائط السراية إلى الباقي وللشافعي ثلاثة أقوال :

                                        أحدها : وهو الأصح عند أصحابه - أنه يحصل بنفس الإعتاق ، وهي رواية عن مالك .

                                        الثاني : أن العتق لا يحصل إلا إذا أدى نصيب الشريك ، وهذا ظاهر مذهب مالك .

                                        الثالث : أن يتوقف : فإن أدى القيمة بان حصول العتق من وقت الإعتاق ، وإلا بان أنه لم يعتق . وألفاظ الحديث المذكور : مختلفة عند الرواة ففي بعضها قوة لمذهب مالك ، وفي بعضها ظهور لمذهب الشافعي ، وفي بعضها احتمال متقارب ، وألفاظ هذه الرواية تشعر بما قاله مالك ، وقد استدل بها على هذا المذهب ; لأنها تقتضي ترتيب التقويم على عتق النصيب ، وتعقب الإعطاء وعتق الباقي للتقويم ، فهذا الترتيب بين الإعطاء ، وعتق الباقي للتقويم . فالتقويم إما أن يكون راجعا إلى ترتيب في الوجود ، أو إلى ترتب في الرتبة ، والثاني : باطل ; لأن عتق النصيب الباقي - على قول السراية - بنفس إعتاق الأول إما مع إعتاق الأول ، أو عقيبه فالتقويم : إن أريد به : الأمر الذي يقوم به الحاكم والمقوم : فهو متأخر في الوجود عن عتق النصيب والسراية معا فلا يكون عتق نصيب الشريك مرتبا على التقويم في الوجود ، مع أن ظاهر اللفظ : يقتضيه ، وإن أريد بالتقويم : وجوب التقويم مع ما فيه من المجاز فالتقويم بهذا التفسير : مع العتق الأول يتقدم على الإعطاء وعتق الباقي ، فلا يكون عتق الباقي متأخرا عن التقويم على هذا التفسير ، لكنه متأخر على ما دل عليه ظاهر اللفظ ، وإذا بطل الثاني تعين الأول وهو أن يكون عتق الباقي راجعا إلى الترتيب في الوجود ، أي يقع أولا التقويم ، ثم الإعطاء وعتق الباقي ، وهو مقتضى مذهب مالك إلا أنه يبقى على هذا احتمال أن يكون " ، وعتق " معطوفا على " قوم " لا على " أعطى " فلا يلزم تأخر عتق الباقي على الإعطاء ، ولا كونه معه في درجة واحدة ، فعليك بالنظر في أرجح الاحتمالين ، أعني عطفه على " أعطى " أو عطفه على " قوم " . [ ص: 713 ] وأقوى منه : رواية عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه إذ فيها { فكان موسرا فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة ، أو قال : قيمة لا وكس ، ولا شطط ثم يقوم لصاحبه حصته ثم يعتق } فجاء بلفظة " ثم " المقتضية لترتيب العتق على الإعطاء والتقويم ، وأما ما يدل ظاهره للشافعي : فرواية حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر { من أعتق نصيبا له في عبد ، وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق } ، وأما ما في رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله فما جاء فيها { من أعتق شركا له في عبد فقد عتق كله ، إن كان للذي عتق نصيبه من المال ما يبلغ ثمنه ، يقوم عليه قيمة عدل فيدفع إلى شركائه أنصباءهم ، ويخلى سبيله } فإن في أوله : ما يستدل به لمذهب الشافعي لقوله " فقد عتق كله " فإن ظاهره يقتضي : تعقيب عتق كله لإعتاق النصيب ، وفي آخره : ما يشهد لمذهب مالك فإنه قال " يقوم قيمة عدل فيدفع " فأتبع إعتاق النصيب للتقويم ، ودفع القيمة للشركاء عقيب التقويم ، وذكر تخلية السبيل بعد ذلك بالواو ، والذي يظهر لي في هذا : أن ينظر إلى هذه الطرق ، ومخارجها فإذا اختلفت الروايات في مخرج واحد : أخذنا بالأكثر فالأكثر ، أو بالأحفظ فالأحفظ ثم نظرنا إلى أقربها دلالة على المقصود فعمل بها . وأقوى ما ذكرناه لمذهب مالك : لفظة " ثم " ، وأقوى ما ذكرناه لمذهب الشافعي : رواية حماد ، وقوله { من أعتق نصيبا له في عبد ، وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق } لكنه يحتمل أن يكون المراد : أن مآله إلى العتق ، أو أن العتق قد وجب له وتحقق ، وأما قضية وجوبه بالنسبة إلى تعجيل السراية ، أو توقفها على الأداء : فمحتمل فإذا آل الحال إلى هذا ، فالواجب النظر في أقوى الدليلين ، وأظهرهما دلالة ، ثم على تراخي العتق عن التقويم والإعطاء ، أو دلالة لفظة " عتيق " على تنجيز العتق هذا بعد أن يجري ما ذكرناه من اعتبار اختلاف الطرق ، أو اتفاقها .



                                        الرابع والعشرون : يمكن أن يستدل به من يرى السراية بنفس الإعتاق ، على عكس ما قدمناه في الوجه قبله . [ ص: 714 ] وطريقه أن يقال : لو لم تحصل السراية بنفس الإعتاق ، لما تعينت القيمة جزاء للإعتاق ، لكن تعينت فالسراية حاصلة بالإعتاق . بيان الملازمة : أنه إذا تأخرت السراية عن الإعتاق ، وتوقفت على التقويم فإذا أعتق الشريك الآخر نصيبه : نفذ ، وإذا نفذ فلا تقويم فلو تأخرت السراية : لم يتعين التقويم ، لكنها متعينة للحديث .



                                        الخامس والعشرون : اختلف الحنفية في تجزي الإعتاق ، بعد اتفاقهم على عدم تجزي العتق فأبو حنيفة يرى التجزي في الإعتاق ، وصاحباه لا يريانه ، وانبنى على مذهب أبي حنيفة : أن للساكت أن يعتق إبقاء للملك ، ويضمن شريكه ; لأنه جنى على ملكه بالإفساد ، واستسعى العبد ; لأنه ملكه ، وهذا في حال يسار المعتق ، فإن كان في حال إعساره : سقط التضمين ، وبقي الأمران الآخران ، وعند أبي يوسف ومحمد : لما لم يتجزأ الإعتاق : عتق كله ، ولا يملك إعتاقه ، ولهما أن يستدلا بالحديث من جهة ما ذكرناه من تعين القيمة فيه ، ومع تجزي الإعتاق لا تتعين القيمة .



                                        السادس والعشرون : الحديث يقتضي وجوب القيمة على المعتق للنصيب : إما صريحا ، كما في بعض الروايات " يقوم عليه قيمة العدل ، فيدفع لشركائه حصصهم " ، وإما دلالة سياقية لا يشك فيها ، كما في رواية أخرى ، وهذا يرد مذهب من يرى أن باقي العبد يعتق من بيت مال المسلمين ، وهو قول مروي عن ابن سيرين ، مقتضاه : التقويم على الموسر ، وذكر بعضهم قولا آخر أنه ينفذ عتق من أعتق ويبقى من لم يعتق على نصيبه ، يفعل فيه ما شاء ، وروي في ذلك عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كان بيني وبين الأسود غلام ، شهد القادسية ، وأبلى فيها فأرادوا عتقه وكنت صغيرا فذكر ذلك الأسود لعمر فقال : أعتقوا أنتم ويكون عبد الرحمن على نصيبه حتى يرغب في مثل ما رغبتم فيه ، أو يأخذ نصيبه " ، وفي رواية عن الأسود قال " كان لي ، ولإخوتي غلام أبلى يوم القادسية فأردت عتقه لما صنع فذكرت ذلك لعمر فقال : لا تفسد عليهم نصيبهم حتى يبلغوا . فإن رغبوا فيما رغبت فيه ، وإلا لم تفسد عليهم نصيبهم " فقال بعضهم : لو رأى التضمين لم يكن ذلك إفسادا لنصيبهم ، والإسناد صحيح ، غير أن في إثبات قول بعدم التضمين عند اليسار بهذا [ ص: 715 ] نظر ما ، وعلى كل تقدير : فالحديث يدل على التقويم عند اليسار المذكور فيه .



                                        السابع والعشرون : " قوم عليه قيمة عدل " يدل على إعمال الظنون في باب القيم هو أمر متفق عليه لامتناع النص على الجزئيات من القيم في طول مدة الزمان .



                                        الثامن والعشرون : استدل به على أن ضمان المتلفات التي ليست من ذوات الأمثال بالقيمة ، لا بالمثل صورة .



                                        التاسع والعشرون : اشتراط قيمة العدل : يقتضي اعتبار ما تختلف به القيمة عرفا من الصفات التي يعتبرها الناس .



                                        الثلاثون : فيه التصريح بعتق نصيب الشريك المعتق بعد إعطاء شركائه حصصهم ، قال يونس - هو ابن يزيد - عن ربيعة : سألته عن عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه من العبد ؟ فقال ربيعة : عتقه مردود . فقد حمل على أنه يمنع عتق المشاع .

                                        [ الحادي والثلاثون : ظاهر تعليق العتق بإعطاء شركائه حصصهم ; لأنه رتب على العتق التقويم بالفاء ثم على التقويم بالفاء : الإعطاء والعتق . وعلى قولنا : إنه يسري بنفس العتق : لا يتوقف العتق على التقويم والإعطاء ، وقد اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يسري إلى نصيب الشريك بنفس العتق .

                                        والثاني : يعتق بإعطاء القيمة .

                                        والثالث : أنه موقوف ، فإن أعطى القيمة ثبتت السراية من وقت العتق ، وهذا القول قد لا ينافيه لفظ الحديث ] .

                                        الثاني والثلاثون قوله " وإلا فقد عتق منه ما عتق " فهم منه عتق ما عتق فقط ; لأن الحكم السابق يقتضي عتق الجميع ، أعني عتق الموسر فيكون عتق المعسر لا يقتضيه ، نعم يبقى ههنا : أنه هل يقتضي بقاء الباقي من العبد على الرق ، أو يستسعي [ ص: 716 ] العبد ؟ فيه نظر ، والذين قالوا بالاستسعاء : منع بعضهم أن يدل الحديث على بقاء الرق في الباقي ، وأنه إنما يدل على عتق هذا النصيب فقط ، ويؤخذ حكم الباقي من حديث آخر ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى .




                                        الخدمات العلمية