الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 548 ] قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا

                                                                                                                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة لما سأله: مم خلق الخلق؟ فقال له: "من الماء"، يدل على أن الماء أصل جميع المخلوقات ومادتها . وجميع المخلوقات خلقت منه .

                                                                                                                                                                                              وفي "المسند" من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء . فقال: "كل شيء خلق من ماء" .

                                                                                                                                                                                              وقد حكى ابن جرير وغيره، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وطائفة من السلف: أن أول المخلوقات الماء . وروى الجوزجاني بإسناده عن عبد الله بن عمرو أنه سئل عن بدء الخلق . فقال: من تراب، وماء، وطين، ومن نار، وظلمة . فقيل له: فما بدء الخلق الذي ذكرت؟ قال: من ماء ينبوع .

                                                                                                                                                                                              وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الماء كان موجودا قبل خلق السماوات والأرض، فقال تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح البخاري " عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله - وفي رواية - "معه "، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض " . [ ص: 549 ] وفي "صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير ، وغيره عن ابن عباس : إن الله عز وجل كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه فسمي سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، وكان ذلك الدخان من نفس الماء حين تنفس، ثم جعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات .

                                                                                                                                                                                              وعن وهب : إن العرش كان قبل أن تخلق السماوات والأرض على الماء . فلما أراد الله أن يخلق السماوات والأرض قبض من صفاء الماء قبضة، ثم فتح القبضة فارتفعت دخانا، ثم قضاهن سبع سموات في يومين، ثم أخذ طينة من الماء فوضعها في مكان البيت، ثم دحا الأرض منها .

                                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: خلق الله الأرض أولا، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض بعد أن خلق السماء . وقيل: خلق الله تعالى زمردة خضراء كغلظ السماوات والأرض، ثم نظر إليها نظر العظمة، فانماعت، يعني ذابت فصارت ماء، فمن ثم يرى الماء دائما يتحرك من تلك الهيبة .

                                                                                                                                                                                              ثم إن الله تعالى رفع من البحر بخارا، وهو الدخان الذي ذكره في قوله: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلق السماء من الدخان، [ ص: 550 ] وخلق الأرض من الماء، والجبال من موج الماء،

                                                                                                                                                                                              وقال وهب : أول ما خلق الله تعالى مكانا مظلما، ثم خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظرة الهيبة فصارت ماء، فارتفع بخارها وزبدها، فخلق من البخار السماوات، ومن الزبد الأرضين .

                                                                                                                                                                                              وروى عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله عز وجل خلق خلقه من ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل " .

                                                                                                                                                                                              وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكعب الأحبار : ما أول شيء ابتدأ تعالى من خلقه؟ قال كعب : كتب الله كتابا لم يكتبه قلم ولا دواة، أي مداد، كتابه الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي . وأن محمدا عبدي ورسولي، سبقت رحمتي غضبي، قال كعب : فإذا كان يوم القيامة أخرج ذلك الكتاب، فيخرج من النار مثلي عدد أهل الجنة فيدخلهم الجنة .

                                                                                                                                                                                              وقال سلمان وعبد الله بن عمرو : إن لله تعالى مائة رحمة كما بين السماء والأرض، فأنزل منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا، فبها يتراحم الجن والإنس، وطير السماء، وحيتان الماء، وما بين الهواء، ودواب الأرض . وهوامها، وادخر عنده تسعا وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أنزل تلك الرحمة إلى ما عنده فيرحم عباده، والآثار في هذا الباب كثيرة، وهذا كله يبين أن السماوات والأرض خلقت من الماء، والخلاف في أن الماء هل هو أول [ ص: 551 ] المخلوقات أم لا مشهور، وحديث أبي هريرة يدل على أن الماء مادة جميع المخلوقات، وقد دل القرآن على أن الماء مادة جميع الحيوانات، قال الله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي وقال تعالى: والله خلق كل دابة من ماء وقول من قال: إن المراد بالماء النطفة التي يخلق منها الحيوانات بعيد لوجهين:

                                                                                                                                                                                              أحدهما: أن النطفة لا تسمى ماء مطلقا بل مقيدا، لقوله تعالى: خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب وقوله تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين

                                                                                                                                                                                              والثاني: أن من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة، كدود الخل، والفاكهة ونحو ذلك، فليس كل حيوان مخلوقا من نطفة، والقرآن دل على خلق جميع ما يدب وما فيه حياة من ماء، فعلم بذلك أن أصل جميعها الماء المطلق . ولا ينافي هذا قوله تعالى: والجان خلقناه من قبل من نار السموم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خلقت الملائكة من نور" . فإن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، دل على أن أصل النور والنار الماء، كما أن أصل التراب الذي خلق منه آدم الماء، فإن آدم خلق من طين، والطين تراب مختلط بماء، والتراب خلق من الماء كما تقدم عن ابن عباس ، وغيره ، وزعم مقاتل : أن الماء خلق من النور، وهو مردود بحديث أبي هريرة هذا وغيره، ولا يستنكر خلق النار من الماء، فإن الله عز وجل جمع بقدرته بين الماء والنار في الشجر [ ص: 552 ] الأخضر، وجعل ذلك من أدلة القدرة على البعث، وذكر الطبائعيون: أن الماء بانحداره يصير بخارا، والبخار ينقلب هواء، والهواء ينقلب نارا، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية