الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ومما ذكرنا مسائل فيها خلاف قديم ، وهي - : من نذر الصدقة بجميع ماله ، ومن نذر أن ينحر نفسه ، ومن نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو مسجد إيلياء ، أو الركوب ، أو النهوض إلى مكة ، أو إلى موضع سماه من الحرم ، ومن نذر عتق عبده إن باعه ، أو عتق عبد فلان إن ملكه . [ ص: 254 ] فأما الصدقة بجميع المال فقد ذكرنا من قال : لا شيء في ذلك من الصحابة والتابعين إذا خرج مخرج اليمين - وهو قولنا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : من نذر أن يتصدق بجميع ماله في المساكين فعليه أن يتصدق به كله ، صح ذلك من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رجلا سأله فقال جعلت مالي في سبيل الله ؟ فقال ابن عمر : فهو في سبيل الله .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن سالم ، والقاسم بن محمد ، أنهما قالا في هذه المسألة : يتصدق به على بعض بناته .

                                                                                                                                                                                          وصح عن الشافعي ، والنخعي ، أنهما كانا يلزمانه ما جعل على نفسه - وهو قول عثمان البتي ، والشافعي ، والطحاوي ، وأبي سليمان ، قال هؤلاء : فإن أخرجه مخرج اليمين فكفارته كفارة يمين إلا أبا سليمان فقال : لا شيء في ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يتصدق بجميعه حاشا قوت شهر فإذا أفاد شيئا تصدق بما كان أبقى لنفسه - وهو قول زفر بن الهذيل ، ورأى فيه إذا أخرجه مخرج اليمين كفارة يمين .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يتصدق بثلث ماله ويجزيه - : روينا ذلك عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب - وصح نحوه عن الزهري - وهو قول الليث بن سعد .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : فيه كفارة يمين - : روينا ذلك أيضا عن عكرمة ، والحسن ، وعطاء .

                                                                                                                                                                                          وروينا ذلك قبل عن عائشة أم المؤمنين ، وعمر ، وجابر ، وابن عباس وابن عمر - وهو قول الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة - كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن جابر بن زيد أنه سئل عمن جعل ماله هديا في سبيل الله عز وجل ؟ فقال : إن الله تعالى لم يرد أن يغتصب أحدا ماله ، فإن كان كثيرا فليهد خمسه وإن كان وسطا فسبعه ، وإن كان قليلا فعشره .

                                                                                                                                                                                          قال قتادة : الكثير ألفان ، والوسط ألف ، والقليل خمسمائة . [ ص: 255 ] وقالت طائفة - ما روينا بالسند المذكور إلى قتادة ، قال : يتصدق بخمسه .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يتصدق بربع العشر - كما روينا ذلك آنفا عن ابن عباس وابن عمر وهو قول ربيعة ، وسوى بين من حلف بصدقة جميع ماله أو بصدقة جزء منه سماه وإنما روينا ذلك عنهم في اليمين بذلك .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن عبد العزيز بن الماجشون أنه استحسن قول ربيعة هذا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة - كما روينا من طريق ابن جريج ، وعمر بن ذر ، كلاهما عن عطاء فيمن قال : إبلي نذر ، أو هدي ، أنه يجزيه بعير منها .

                                                                                                                                                                                          قال ابن جريج عنه : لعله يجزيه إن كانت إبله كثيرة .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن ذر عنه : يهدي جزورا ثمينا ، ويمسك بقية إبله .

                                                                                                                                                                                          وأما المتأخرون فلهم أقوال غير هذا كله - :

                                                                                                                                                                                          قال أبو حنيفة : من نذر أن يتصدق بجميع ماله نذرا ، أو على سبيل اليمين ، فإنه يلزمه أن يتصدق من ماله بكل نوع تجب فيه الزكاة فقط ، كالمواشي ، والذهب والفضة ، سواء كان معه من ذلك نصاب تجب في مثله الزكاة ، أو كان أقل من النصاب - ولا شيء عليه في سائر أمواله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ولا ندري ما قولهم في الحبوب وما يزرع ، والثمار ، والعسل ؟ فإن الزكاة في كل هذا عنده نعم ، وفي كل عرض إذا كان للتجارة وهو قول أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن - وهذا قول في غاية الفساد ولا يعرف عن أحد قبل أبي حنيفة ولا متعلق له بقرآن ولا بسنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول سلف ، ولا قياس ، وموه بعضهم بأن قال : المال هو الذي فيه الزكاة لقول الله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : الصدقة المأخوذة إنما هي من جملة ما يملك المرء ، وما اختلف قط عربي ، ولا لغوي ، ولا فقيه ، أن الحوائط ، والدور تسمى : مالا ، وأموالا - وأن من حلف أنه لا مال له وله حمير ، ودور ، وضياع ، فإنه حانث عندهم ، وعند غيرهم - : وقال أبو طلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أموالي إلي بيرحاء { وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك أمسك عليك بعض مالك ؟ فقال : إني أمسك سهمي الذي بخيبر } . [ ص: 256 ] ويلزم على قولهم الفاسد أن لا تجزئ صدقة أصلا إلا بمال فيه زكاة أو بمقدار الزكاة فقط .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : سواء نذر ذلك أو أخرجه مخرج اليمين إن قال : مالي كله صدقة على المساكين أجزأه ثلثه ، فإن قال : دوري كلها صدقة على المساكين وضياعي كلها صدقة على المساكين ، وثيابي كلها صدقة على المساكين ، ورقيقي كلهم صدقة على المساكين ، فلم يزل هكذا حتى سمى نوعا نوعا حتى أتى على كل ما يملك - : لزمه أن يتصدق بكل ذلك أوله عن آخره ، لا يجزيه منه الثلث إلا أنه يؤمر ولا يجبر .

                                                                                                                                                                                          فلو قال مكان المساكين على إنسان بعينه - : لزمه أن يتصدق عليه بكل ذلك ويجبر على ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : فلو نذر ، أو حلف أن يتصدق بماله كله ، إلا دينارا أنه تلزمه الصدقة بجميعه إلا دينارا - : وهذا قول في غاية الفساد ، لأنه لا قرآن يعضده ، ولا سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا قول نعلمه عن أحد قبله ولا قياس ، ولا رأي له وجه ; بل هو مخالف لكل ذلك .

                                                                                                                                                                                          ونسألهم عمن نذر أن يتصدق بماله كله إلا نصف دينار ، أو درهما حتى نبلغهم إلى الفلس ، وحبة الخردلة ؟ وقال ابن وهب : إن كان ماله كثيرا تصدق بثلثه ، وإن كان يسيرا فربع عشره ، وإن كان علقة قليلة ، فكفارة يمين - وهذا أيضا قول لا وجه له .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد ليس لشيء من هذه الأقوال متعلق يحتاج إلى ذكره إلا قول من قال من قال : يتصدق بجميعه ; وقول من قال : يتصدق بثلثه ، وقول من قال : كفارة يمين فقط .

                                                                                                                                                                                          فأما من قال : كفارة يمين ، فإنهم احتجوا بالخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله { كفارة النذر كفارة يمين } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا خبر لا حجة لهم فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه } ; فلا يخلو النذر بصدقة المال كله من أن يكون طاعة لله تعالى فيلزم الوفاء به ، أو يكون معصية فلا يلزمه أصلا إلا أن يأتي نص صحيح [ ص: 257 ] في ذلك بحكم ما فيوقف عنده ، فبطل تعلقهم بقوله عليه السلام { : كفارة النذر كفارة يمين } - ولهذا الخبر وجه ظاهر نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وأما من قال : يتصدق بجميعه فإنهم قالوا : هو نذر طاعة فعليه الوفاء به .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، بل ليس هو نذر طاعة على ما نبين إن شاء الله تعالى ؟ وأما من قال : يجزيه الثلث ، فإنهم احتجوا بخبر : رويناه من طريق أبي داود نا محمد بن يحيى نا الحسن بن الربيع نا ابن إدريس قال : قال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن { عبد الرحمن بن عبد الله بن مالك عن جده في قصته إذ تخلف عن تبوك قال : قلت : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة قال : لا ، قلت : فنصفه ، قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ، قلت : فإني أمسك سهمي من خيبر } .

                                                                                                                                                                                          وبخبر : رويناه من طريق ابن شهاب : أن حسين بن السائب بن أبي لبابة أخبره { أن أبا لبابة قال : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله - عز وجل - أن أهجر دار قومي ، وأساكنك ، وأنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله ؟ قال : يجزي عنك الثلث } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن شهاب - : أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة عن أبي لبابة بمثله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الزهري أخبرني ابن المسيب فذكر الحديث ، وفيه { أن أبا لبابة قال : يا رسول الله ، وأن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ؟ قال : يجزي عنك الثلث } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا كل ما احتجوا به ، وكله لا حجة لهم فيه ; لأنها كلها مراسيل ، والأول منقطع ; لأن ابن إدريس يذكر أنه سمعه من ابن إسحاق .

                                                                                                                                                                                          وأما تمويه المالكيين بالاحتجاج بهذا الخبر فعار عظيم عليهم ; لأنهم مخالفون له كله بتلك التقاسيم الفاسدة ، وبأنهم يرون عليه الوفاء بصدقة نصف ماله إذا نذره - وفي هذا الخبر خلاف ذلك ، والتسوية بين النذر بصدقة جميعه ، وصدقة نصفه - فبطل أن يكون لهذا القول متعلق .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 258 ] قال علي : فإذا بطلت هذه الأقوال إلا قول من قال : يتصدق بجميعه ; لأنه طاعة منذورة - فههنا نتكلم معهم إن شاء الله تعالى ، فنقول - : قال الله تعالى { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } فلام الله تعالى ولم يحب من تصدق بكل ما يملك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا أحمد بن صالح نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال : سمعت { كعب بن مالك - فذكر حديث تخلفه عن تبوك - وأنه قال لرسول الله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم عن أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح عن ابن وهب بإسناده مثله ، وزاد فيه فقلت : إن أمسك سهمي الذي بخيبر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أن خير الصدقة ما ترك غنى ، أو تصدق عن غنى ، وابدأ بمن تعول } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء ، فهكذا وهكذا } .

                                                                                                                                                                                          والأحاديث ههنا كثيرة جدا . ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الظفري عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : { كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب فقال : يا رسول الله أصبت هذه من [ ص: 259 ] معدن فخذها فهي صدقة ، ما أملك غيرها ؟ فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه مرارا - وهو يردد كلامه هذا - ثم أخذها عليه السلام فحذفه بها ، فلو أنها أصابته لأوجعته أو لعقرته وقال عليه السلام : يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ثم يقعد فيتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه ، وفي آخره : أنه عليه السلام قال : { خذ عنا مالك ، لا حاجة لنا به } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سفيان بن عيينة بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : { دخل رجل المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فأمر له منها بثوبين ، ثم حث عليه السلام على الصدقة فطرح الرجل أحد الثوبين فصاح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال خذ ثوبك } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حكيم بن حزام ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى } .

                                                                                                                                                                                          فهذه آثار متواترة متظاهرة بإبطال الصدقة بما زاد على ما يبقي غنى ، وإذا كان الصدقة بما أبقى غنى خيرا وأفضل من الصدقة بما لا يبقي غنى ; فبالضرورة يدري كل أحد أن صدقته بتلك الزيادة لا أجر له فيها ، بل حطت من أجره فهي غير مقبولة ، وما تيقن أنه يحط من الأجر ، أو لا أجر فيه من إعطاء المال فلا يحل إعطاؤه فيه ; لأنه إفساد للمال وإضاعة له وسرف حرام ، فكيف ورده عليه السلام الصدقة بذلك بيان كاف ؟ فإن ذكروا قول الله تعالى { : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .

                                                                                                                                                                                          وقوله عليه السلام إذ سئل { أي الصدقة أفضل ؟ فقال : جهد المقل } .

                                                                                                                                                                                          وقوله عليه السلام { سبق درهم مائة ألف كان لرجل درهمان تصدق بأجودهما } .

                                                                                                                                                                                          وبقوله تعالى { : والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم } . [ ص: 260 ] وبحديثي أبي مسعود { كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالصدقة ; فينطلق أحدنا فيتحامل فيجيء بالمد ، وصدقة أبي عقيل بصاع تمر } فهذا كله صحيح وحجة لنا لا لهم .

                                                                                                                                                                                          وأما قول الله تعالى { : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } فليس فيه أنهم لم يبقوا لأنفسهم معاشا ، إنما فيه أنهم كانوا مقلين ، ويؤثرون من بعض قوتهم .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله تعالى : { والذين لا يجدون إلا جهدهم } فمثل هذا أيضا .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم " جهد المقل " ففي حديث أبي هريرة هذه اللفظة الموصولة بقوله عليه السلام { : وابدأ بمن تعول } فبين هذا القول أنه جهده بعد كفاف من تعول .

                                                                                                                                                                                          وكذلك حديثا أبي مسعود أيضا ، وإنما كان لرجل درهمان فتصدق بأجودهما ، فكذلك أيضا ، وقد يكون له ضيعة أو له غلة تقوم به فتصدق بأحد درهمين كانا له ولم يقل عليه السلام : إنه لم يكن له غيرهما ؟ فإن ذكروا صدقة أبي بكر بما يملكه ؟ قلنا : هذا لا يصح ; لأنه من طريق هشام بن سعد ، وهو ضعيف عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت { عمر يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما قال : فجئت بنصف مالي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأنه بلا شك كانت له دار بالمدينة معروفة ودار بمكة - وأيضا : فإن مثل أبي بكر لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليضيعه فكان في غنى .

                                                                                                                                                                                          فصح بما ذكرنا أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله مجملا ، أو منوعا على سبيل القربة إلى الله تعالى ، لم يلزمه أن يتصدق منه إلا بما أبقى لنفسه ، ولأهله غنى ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعب بن مالك وغيره . [ ص: 261 ] فإن ذكروا حديث سعد في الوصية ؟ قلنا : هو عليكم ; لأن أمر الوصية غير أمر الصدقة المنفذة في الحياة باتفاق منا ومنكم - وأيضا فقد منعه عليه السلام من الصدقة بنصفه ، وأنتم لا تقولون هذا ، وليس لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث ; ولو ترك ألف ألف دينار أو أكثر - ويرد ما زاد على ذلك ، وأنتم لا تقولون : برد ما نفذ من الصدقة بأكثر من ثلثه في حياته - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية