الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                وأما أحكامه فعشرة :

                                                                                                                الحكم الأول : جمع ماله وبيعه ، وفي الكتاب : من قام بدين على غائب - ولعله كثير المداينة - لغير من حضر بيع عرضه لمن حضر ، وليس كالميت في الاستيناء لاجتماع من يطرأ من غرمائه لبقاء ذمة هذا دون الميت ؛ قاله مالك ، وقال غيره : يستأني كالميت إن كان معروفا بالدين ; لتوقع الضرر على الغائب من الغرماء فيهما . قال التونسي : قريب الغيبة لا يفلس ، وبعيدها مجهول الملاء ، ومعروفها لا يفلس عند ابن القاسم ، ولا يحل المؤجل من دينه ، ويأخذ من حل دينه ما حضر ، ويحاص فيه إن لم يف بالمؤجل ، ولا يكون واجد سلعته أحق بها ; لأن الأصل عدم التفليس . وقال أشهب : يفلس كالحاضر الغائب ماله . قال أصبغ : ويكتب تفليسه حيث هو ، قال : وفيه نظر ; لأن أشهب إنما فلسه لإمكان تلف المال ، فإذا وصل إليه فكيف يحل عليه بقية المؤجل وقد ذهبت العلة ؟ ! قال ابن يونس : تباع داره وخاتمه ، وسرجه وسلاحه ، ولا تباع ثياب جسده دون ثوبي جمعته إن كانت لهما قيمة ، وإلا فلا .

                                                                                                                ويباع سريره وسيفه ، ورمحه ومصحفه ، دون كتب العلم في دين الميت ، والوارث وغيره فيها سواء ممن هو لها أهل ؛ قاله سحنون ، وخالفه أبو محمد وغيره ; لأنها أعيان مقصودة بالأعواض كسائر المتمولات ، ولم تتمحض للقرب كالمساجد والربط ، قال صاحب المقدمات : ولم يختلف في جواز بيع المصحف بخلاف كتب العلم . قال ابن يونس : وليس لغرماء المفلس أن يواجروا أم ولده ، ويواجروا مدبره ، ويبيعوا كتابة مكاتبه ; لقبول ذلك للمعارضة وهي في حوزه ، ولا يجبر على اعتصار ما وهب لولده ، ولا أخذ شفعته ، ولا قبول هبته ; لقوله - عليه السلام - في حديث معاذ : ( خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك ) .

                                                                                                                [ ص: 164 ] وإذا اشترى أباه بيع في الدين ; لأن الدين مقدم على العتق وبر الوالدين ، بخلاف لو وهب له لانخرام مقصود الواهب ، بخلاف البائع ، إلا أن يجهل الواهب أنه أبوه فيباع لعدم قصده العتق .

                                                                                                                في النوادر : الميراث كالشراء يباع أيضا ، ولو دبر ولد أمته الصغير ثم استدان وفلس لا تباع الأمة للتفرقة ، لكن تخارج ويأخذ الغرماء خرجها إلى مبلغ حد التفرقة ، فتباع ويباع منها بقدر الدين ، إلا أن يموت السيد قبل ذلك فتباع الأمة إن وفت الدين ، ويعتق ثلث المدبر ، وإن وفى بعضها عتق من باقيها ، وفي بقية مبلغ الثلث من ذلك إن لم يدع غير ذلك ، وإن كانت هي المدبرة فالجواب سواء .

                                                                                                                قال سحنون : لا يجبر ورثة الذمي على بيع خمره وخنازيره ، وإن لم يترك غير ذلك ، بل يتربص الطالب ، فإن باعوا وصار مالا طلب وقضي له به ، وكذلك مركب بساحلنا فيه خمر ، وإن قالت امرأة المفلس : هذه الجارية لي وصدقها ، وقال الغرماء : بل له . قال سحنون : إن كانت في حيازة المرأة والزوج يقوم بها لم تصدق بعد التفليس ، وعلى المرأة البينة للتهمة في الحوز لها عن الغرماء ، ووافقنا ( ش ) في بيع داره وخادمه ، قال : وإن كان محتاجا إليه ، وخالف ابن حنبل .

                                                                                                                قال مالك : ويستأني بربعه الشهر والشهرين لتوقع الزيادة في الثمن مع الأمن عليه ، والعروض والحيوان مدة يسيرة ، والحيوان أسرع لقرب تغيره ، ولا يبيع السلطان إلا بالخيار ثلاثة أيام لتوقع الزيادة . قال اللخمي : إلا أن يكون الربع أعظمها ، وتكون المبادرة إليه متعينة خشية الرجوع عنه فلا يؤخر ، والعادة أن يبيع القاضي بيع خيار وإن لم يشترط ، إلا أن يعلم المشتري تلك العادة فله القيام في تنجيز البيع أوالرد إن كره البقاء على الخيار .

                                                                                                                قال ابن يونس : قال مالك : ويترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام ، وقال نحو الشهر ، وإن لم يوجد غيره ترك ; لأن الحياة مقدمة على مال الغير ; لأنه يجب على الغير إزالة ضرره بماله ، فأولى التأخير بما في الذمة . وقال ( ش ) : إن كان له كسب [ ص: 165 ] فنفقته في كسبه وإلا ترك له ما يحتاجه إلى انفكاك الحجر عنه . وقال ابن حنبل : ينفق على المفلس ومن تلزمه نفقته بالمعروف إلى حين القسمة ، فإن كان يكتسب أنفق على نفسه ، وإن لم يكن له كسب أنفق عليه مدة الحجر وإن طالت ، كالميت يجهز ، وضرورة الحي أعظم .

                                                                                                                لنا : الحي مجبول على طلب الكسب والتسبب غالبا ، وحق الغريم متعين فيقدم ، والميت يتعين تجهيزه في ماله الحاضر ، وأيس من تحصيله لمال آخر ، وأهله عندنا زوجته وولده الصغار فيعطى نفقتهم ونفقته ، وكسوته وكسوتهم ; لأن الغرماء عاملوه على ذلك . وعنه لا تترك له كسوة زوجته لبعد ضرورتها عنه ، فلها طلب طلاق نفسها ، والصبر مدة بخلاف نفقته ونفقتها . وفي الموازية : إن بعث نفقة لأهله فقام غرماؤه فلهم أخذها ; لأن حق الغريم متعين في المال ، والزوجة لها أحد الأمرين : إما النفقة أو الطلاق ، فإن قال الرسول : أوصلتها لأهله صدق مع يمينه ، ولهم أخذها من عياله إن قاموا بحدثان ذلك ، فإن تراخوا مدة تنفق في مثلها فلا شيء لهم لذهاب عين المال ، فإن قاموا بحدثان ذلك فقال أهله : قضينا دينا في نفقة تقدمت لم يصدقوا ، وعليهم البينة ، إلا أن يأتوا على ذلك بلطخ أو برهان .

                                                                                                                قال اللخمي : يجبر العامل على بيع قراض المفلس إن جاز بيعه ، وكذلك إن كان هو المفلس ، وفيه فضل ، وإن لم يجز البيع لم يجبر . قال : وأرى إن رضي الغرماء أن يضمنوا للعامل ما يربح في مثلها عند أوان البيع أن يمكنوا الآن من البيع ، ويدفعوا ذلك إليه وقت البيع ، فإن لم يربح في مثلها ذلك الوقت لم يكن له شيء ، وقال في كتاب محمد : إذا خرج العامل إلى بلد آخر بيع لغرماء المالك ، ولا يباع لغرمائه حتى يحضر المالك ; لأن غرماء المالك كالمالك ، وهو لو لقيه هناك له الانتزاع فكذلك غريمه ، وغريم العامل كالعامل ، والعامل ليس له الترك هناك ، بل عليه إعادته إلى موضع قبضه . فلو علم أنه لم يسافر إلا رجاء الربح لم ينتزعه رب المال ولا الغرماء إلا بعد الرجوع ، وإن وجد قد اشترى بثمن ما باع لم يأخذوه منه حتى يقدم ربه ، وهو كالذي لم يحل بيعه ، وإن كان أخدم عنده لم يبع مرجعه ، كانت الخدمة حياة المخدم أو [ ص: 166 ] سنين معلومة .

                                                                                                                وإن أفلس المخدم كانت الخدمة كالعرض ، إن كانت معلومة العشر سنين ونحوها ، وإن كانت حياة المخدم أو المخدم بيع منها ما قرب السنة والسنتين ، وإن دارا ونقد كراءها بيعت تلك المنافع ، ويباع دينه المؤجل عينا أو عرضا أو طعاما من قرض ، ويؤخر إن كان من بيع حتى يحل أجله لامتناع بيع طعام السلم قبل قبضه ، ويؤخر بيع ما لم يبد صلاحه حتى يبدو صلاحه ، وتباع خدمة المعتق إلى أجل وإن طالت العشر سنين ونحوها ، ولا يباع مال مدبره ولا مال أم ولده ، ومعتقه إلى أجل ; لأنه ملك غيره .

                                                                                                                وقال ابن كنانة : لا يترك للمفلس نفقة ولا كسوة ; لأن الأصل أن الغرماء وغيرهم سواء في مواساته ، وأرى أن يعتبر ما يترك له ثلث قدر المال الذي عليه وعياله ، والسعر من الرخص والغلاء ، فإن ترك له نفقة الشهر في غلاء أو كثرة العيال أضر بالغرماء ، أو مع كثرة العيال ورخاء السعر لم يضر بهم ، وأما مع قلة ما في يديه فالخمسة الأيام والجمعة حسن . ويصح أن لا يترك له شيء بأن يكون ذا صنعة تكفيه ، وقيل : يترك للصانع النفقة اليسيرة خوف المرض ، وليس ببين لندرة المرض ; ولأن الغالب أن المفلس أخفى شيئا وراءه .

                                                                                                                وفي النوادر : إذا كان يفضل عن إجارة نفسه شيء أخذ ؛ قاله ابن القاسم . قال سحنون : والصناع إذ أفلسوا وليس لهم مال أخذ فضل أجر عملهم . قال اللخمي : وإذا أفلس العبد المأذون انتزع ما في يده كالحر ، وإن كان يؤدي لسيده خراجا في حال تجارته من ربحه مضى له ما أخذ ، أو من رأس ماله رد . وإن كان صانعا يشتري الشيء ويصنعه فالغريم أحق بما في يديه ، ولا مقال على السيد فيما أخذ من الخراج مما قابل صنعته ، وإن كان عنده فضل أخذ منه .

                                                                                                                وإن علم أنه كان على خسارة انتزع من السيد ما أخذ ، وإن أبقى السيد في يده شيئا من خراجه لم يأخذه الغريم ، وإن كان في يده مال : وهب له ، أو تصدق به عليه ، أو أوصي له به ، قضي منه الدين ، إلا أن يشترط المعطي أن يتسع فيه العبد ، فلا يقضى منه .

                                                                                                                [ ص: 167 ] فرع

                                                                                                                قال ابن يونس في المدونة : إذا فلست امرأة ثم تزوجت وأخذت مهرها ، ليس لغرمائها فيه قيام ; ليلا يبقى زوجها بغير جهاز ، إلا أن يكون الشيء الخفيف كالدينار .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : يجبر على انتزاع مال أم ولده ، وله انتزاعه إلا أن يمرض ، ولا دين عليه ; لأنه حينئذ ينتزع للورثة لا لنفسه .

                                                                                                                وإن فلس المريض لا يأخذ مال مدبره للغرماء ، وإن مات بيع بماله ، وإن أحاط الدين به . قال التونسي : إن مرض وعليه دين وله مدبر يرده الدين إذا مات لا يعجل بأخذ ماله لدين سيده حتى يموت ، فلعله يعتق بعضه ويباع بعضه في الدين . وقد يطول المرض ويفيد السيد مالا .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الطرطوشي : الحاكم عندنا يتولى بيع مال . وقاله ( ش ) ، وابن حنبل : ويستحب حضوره ; لأنه أعلم بسلعه وميل الناس لمعاملته أكثر وقال ( ح ) : لا يبيع الحاكم ، وإنما يأمر بالبيع ، ويحبسه حتى يبيع .

                                                                                                                لنا : أنه - عليه السلام - باع مال معاذ ، وقول عمر - رضي الله عنه - في حديث الأسيفع : إنا بائعو ماله غدا على رأس المهاجرين والأنصار ، فكان ذلك إجماعا وقياسا على الميت ، وعلى بدل أحد النقدين بالآخر ، فإنه ساعد عليه . ولهم الفرق بأن الميت سقطت أهليته بخلاف الحي ، والنقدان في حكم الشيء الواحد بخلاف غيرهما .

                                                                                                                احتجوا بقوله تعالى : " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " . وبقوله - عليه [ ص: 168 ] السلام - : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ) . وهذا لم تطب به نفسه ، وبالقياس على غير المفلس ، ولأن تصرفه لنفسه أتم من الغير ، ولأنه لو جاز له بيع ماله ، لجاز له بيع منافعه لجريانها مجرى الأموال .

                                                                                                                والجواب عن الأول : القلب ، فإن المفلس إذا امتنع من البيع فقد أكل ماله بالباطل ، ثم نقول : هذا يقتضي منع البيع إذا باع بتضييق الحاكم ، ثم نقيس على ما أجمعنا على تخصيص هذه النصوص به من بدل النقدين أحدهما بالآخر ، ونفقات الزوجات والميت .

                                                                                                                وعن الثاني : الفرق بأن تصرف المفلس يضر بالغرماء بالإزواء في الأثمان بخلاف غير المفلس . وعن الثالث : أن الحاكم قد يملك الإنسان ما لا يملك هو : كفرقة العنة . وعن الرابع : الفرق بأنه يجب عليه بذل ماله للدين ، ولا يجب عليه أن يواجر نفسه ، فقام الحاكم مقامه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية