الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 152 ] باب من تجب عليه الصدقة

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : " وتجب الصدقة على كل مالك تام الملك من الأحرار ، وإن كان صغيرا أو معتوها أو امرأة لا فرق بينهم في ذلك ، كما تجب في مال كل واحد منهم ما لزم ماله بوجه من الوجوه جناية أو ميراث أو نفقة على والد أو ولد زمن محتاج ، وسواء ذلك في الماشية والزرع وزكاة الفطرة ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ابتغوا في أموال اليتيم - أو قال في أموال اليتامى - لا تأكلها الزكاة " ، وعن عمر بن الخطاب وابن عمر وعائشة أن الزكاة في أموال اليتامى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : كل حر مسلم فالزكاة في ماله واجبة ، مكلفا كان أو غير مكلف ، وقال أبو حنيفة : التكليف من شرط وجوب الزكاة ، فإن كان صغيرا أو مجنونا فلا زكاة عليه ، إلا زكاة الفطر والأعشار استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاث عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى ينتبه " . ولأنها عبادة محضة لا تلزم الغير على الغير ، فوجب أن لا تلزم غير مكلف كالصلاة والصيام ، ولأن زكاة المسلم تقابل جزية الذمي لاعتبار الحول فيها ، غير أن الله تعالى جعل الزكاة تطهيرا ونعمة والجزية صغارا ونقمة ، فلما لم تجب الجزية على غير المكلف ، اقتضى أن لا تجب الزكاة على غير المكلف .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، [ التوبة : 103 ] ، والهاء والميم في أموالهم كناية ترجع إلى مذكور تقدم وهو قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، [ التوبة : 100 ] ، قيل : اتبعوهم في الإسلام من الذراري والأطفال .

                                                                                                                                            [ ص: 153 ] وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ابتغوا في أموال اليتامى كيلا تأكلها الزكاة " .

                                                                                                                                            وروى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ولي يتيما فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " .

                                                                                                                                            روى محمد بن عبيد الله ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

                                                                                                                                            " في مال اليتيم زكاة " فإن قيل : هذا خطاب ، والخطاب تكليف ، ولا يتوجه إلى غير مكلف ، قيل الخطاب ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : خطاب مواجهة ، وذلك لا يتوجه إلى غير ما كلف ، وخطاب إلزام كمسألتنا وذلك يتوجه إلى غير المكلف كتوجهه إلى المكلف ، ولأن ذلك مذهب عمر وابن عمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم ، وليس يعرف لهم في الصحابة مخالف ، ولأنه من أصل الفطرة فجاز أن تجب الزكاة في ماله كالبالغ ، ولا يدخل عليه العبد ، لأنه لا مال له ، ولأن كل زكاة تجب على المكلف جاز أن تجب في مال غير المكلف كزكاة الفطر ، ولأن الحقوق ضربان : حق لله تعالى وحق للآدمي ، وحق الآدمي ضربان : أفعال أبدان كالقصاص وحد القذف ، وحقوق أموال كالمهر والنفقات وأروش الجنايات ، فما كان من أفعال الأبدان يختص به المكلف من غيره ، وما كان من حقوق الأموال يستوي فيه المكلف وغيره ، كذلك حقوق الله تعالى ضربان : أفعال أبدان كالصلاة والصيام ، وذلك يختص به المكلف دون غيره ، وحقوق أموال كالزكوات يجب أن يستوي فيها المكلف وغيره ، فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم " فمعنى رفع القلم عن نفسه ، لا عن ماله .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الصلاة والصيام فلا يصح ، لأنهم إن قالوا : فوجب أن لا يجب على الصبي ، قلنا : ليست واجبة عليه وإنما هي واجبة في ماله ، وإن قالوا : فوجب أن لا تجب في ماله ، لم يوجد هذا الوصف في الأصل المردود إليه من الصلاة والصيام ، على أن المعنى في الصلاة والصيام أنهما من أفعال الأبدان والزكوات من حقوق الأموال ، وحكمهما مفترق بالاستدلال المتقدم ، فلم يصح الجمع بينهما ، ألا ترى أنهم فرقوا بين زكاة الفطر وبين [ ص: 154 ] الصلاة ، وبمثله يفرق بين زكوات الأموال وبين الصلاة ، وأما ما ذكروه من الجزية فلا يصح الجمع بينهما ؛ لأن وجوب الجزية أضيق ، ووجوب الزكاة أوسع ، ألا ترى أن الجزية تجب على الرجال دون النساء ، والزكاة تجب على الرجال والنساء ، فلم يصح الجمع بينهما والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية