الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير

اختلف الناس في هذه الآية.

فقالت فرقة فيها مالك ، وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع إذ يتناولها قوله تعالى: ومتعوهن .

وقال ابن المسيب : نسخت هذه الآية الآية التي في الأحزاب، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها.

وقال قتادة : نسخت هذه الآية الآية التي قبلها.

وقال ابن القاسم في "المدونة": كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى: وللمطلقات متاع بالمعروف ، ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب فاستثنى الله المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط.

وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة بهذه الآية، حكى ذلك في "المدونة" عن زيد بن أسلم زعما.

[ ص: 594 ] وقال ابن القاسم : إنه استثناء، والتحرير برد ذلك إلى النسخ الذي قال زيد ، لأن ابن القاسم قال: إن قوله تعالى: وللمطلقات متاع عم الجميع ثم استثنى الله منه هذه التي فرض لها قبل المسيس.

وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور : المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، ولم يعن بالآية لإسقاط متعتها، بل لها المتعة ونصف المفروض.

وقرأ الجمهور: "فنصف" بالرفع، والمعنى: فالواجب نصف ما فرضتم. وقرأت فرقة: "فنصف" بنصب الفاء، والمعنى: فادفعوا نصف. وقرأ علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت : "فنصف" بضم النون في جميع القرآن وهي لغة، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء .

وقوله تعالى: إلا أن يعفون استثناء منقطع لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن و"يعفون" معناه: يتركن ويصفحن، وزنه يفعلن. والمعنى: إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج.

والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، وقال ابن عباس ، وجماعة من الفقهاء والتابعين: ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها. وحكاه سحنون في "المدونة" عن غير ابن القاسم ، بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز.

وأما التي في حجر أب أو وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا فيما أحفظ.

واختلف الناس في المراد بقوله تعالى: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح .

[ ص: 595 ] فقال ابن عباس ، وعلقمة ، وطاوس ، ومجاهد ، وشريح ، والحسن ، وإبراهيم ، والشعبي ، وأبو صالح ، وعكرمة ، والزهري ، ومالك وغيرهم: هو الولي الذي المرأة في حجره، فهو الأب في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته، وأما شريح فإنه جوز عفو الأخ عن نصف المهر، وقال: وأنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن، وكذلك قال عكرمة : يجوز عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أخا أو أبا، وإن كرهت.

وقالت فرقة من العلماء: الذي بيده عقدة النكاح الزوج، قاله علي بن أبي طالب ، وقاله ابن عباس أيضا، وشريح أيضا رجع إليه، وقاله سعيد ابن جبير ، وكثير من فقهاء الأمصار.

فعلى القول الأول الندب لهما هو في النصف الذي يجب للمرأة، فإما أن تعفو هي، وإما أن يعفو وليها، وعلى القول الثاني فالندب في الجهتين، إما أن تعفو هي عن نصفها، فلا تأخذ من الزوج شيئا، وإما أن يعفو الزوج عن النصف الذي يحط، فيؤدي جميع المهر، وهذا هو الفضل منهما، وبحسب حال الزوجين يحسن التحمل والتجمل.

ويروى أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليه بالصداق، فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت رده، قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويحتج القائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج بأن هذا الولي لا يجوز له ترك شيء من صداقها قبل الطلاق، فلا فرق بعد الطلاق، وأيضا فإنه لا يجوز له ترك شيء من مالها الذي ليس من الصداق، فما له يترك نصف الصداق؟ وأيضا فإنه إذا قيل: إنه الولي، فما الذي يخصص بعض الأولياء دون بعض وكلهم بيده عقدة النكاح، وإن [ ص: 596 ] كان كافلا، أو وصيا، أو الحاكم، أو الرجل من العشيرة؟ ويحتج من يقول: إنه الولي الحاجر بعبارة الآية لأن قوله: الذي بيده عقدة النكاح عبارة متمكنة في الولي، وهي في الزوج قلقة بعض القلق. وليس الأمر في ذلك كما قال الطبري ، ومكي من أن المطلق لا عقدة بيده، بل نسبة العقدة إليه باقية، من حيث كان عقدها قبل. وأيضا فإن قوله: إلا أن يعفون لا يدخل فيه من لا تملك أمرها، لأنها لا عفو لها، فكذلك لا يغبن النساء بعفو من يملك أمر التي لا تملك أمرها. وأيضا فإن الآية إنما هي ندب إلى ترك شيء قد وجب في مال الزوج، يعطي ذلك لفظ العفو الذي هو الترك والاطراح، وإعطاء الزوج المهر كاملا لا يقال فيه عفو، إنما هو انتداب إلى فضل. اللهم إلا أن تقدر المرأة قد قبضته. وهذا إطار لا يعتد به. قال مكي : وأيضا فقد ذكر الله الأزواج في قوله: فنصف ما فرضتم ثم ذكر الزوجات بقوله: "يعفون" فكيف يعبر عن الأزواج بعد بالذي بيده عقدة النكاح؟ بل هي درجة ثالثة، لم يبق لها إلا الولي.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا نظر.

وقرأ الجمهور: "أو يعفو" بفتح الواو لأن الفعل منصوب. وقرأ الحسن بن أبي الحسن : "أو يعفو الذي" بواو ساكنة. قال المهدوي ذلك على التشبيه بالألف. ومنه قول عامر بن الطفيل :


فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب



[ ص: 597 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك، لقلة مجيئها في كلام العرب ، وقد قال الخليل رحمه الله: لم يجئ في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم "عفوة" وهو جمع "عفو" وهو ولد الحمار، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو المفتوحة فإنها ثقيلة.

ثم خاطب تعالى الجميع نادبا بقوله: وأن تعفوا أقرب للتقوى أي: يا جميع الناس، وهذه قراءة الجمهور بالتاء باثنتين من فوق. وقرأ أبو نهيك ، والشعبي : "وأن يعفو" بالياء، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح.

وقرأ الجمهور: "ولا تنسوا الفضل"، وقرأ علي بن أبي طالب ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : "ولا تناسوا الفضل" وهي قراءة متمكنة المعنى، لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه.

وقوله تعالى: ولا تنسوا الفضل ندب إلى المجاملة. قال مجاهد : الفضل إتمام الزوج الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها.

وقوله: إن الله بما تعملون بصير خبر في ضمنه الوعد للمحسن، والحرمان لغير المحسن.

التالي السابق


الخدمات العلمية