الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الحسن بن يعقوب البخاري ، والأصم : قالا : حدثنا يحيى بن جعفر ، حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن زيد بن صوحان أن رجلين من أهل الكوفة كانا له صديقين ، فأتياه ليكلم لهما [ ص: 526 ] سلمان ، ليحدثهما حديثه ، فأقبلا معه ، فلقوا سلمان بالمدائن أميرا ، وإذا هو على كرسي ، وإذا خوص بين يديه وهو يرتقه . قالا : فسلمنا عليه وقعدنا ، فقال له زيد : يا أبا عبد الله ، كيف كان بدء إسلامك ؟ قال : كنت يتيما من رامهرمز ، وكان ابن دهقانها يختلف إلى معلم يعلمه ، فلزمته لأكون في كنفه ، وكان لي أخ أكبر مني ، وكان مستغنيا بنفسه ، وكنت غلاما ، وكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظهم ، فإذا تفرقوا ، خرج فقنع رأسه بثوبه ثم صعد الجبل ، كان يفعل ذلك غير مرة متنكرا .

                                                                                      فقلت له : إنك تفعل كذا وكذا ، فلم لا تذهب بي معك ؟ قال : أنت غلام ، وأخاف أن يظهر منك شيء . قلت : لا تخف . قال : فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة وصلاح ، يزعمون أنا عبدة النيران وعبدة الأوثان ، وأنا على غير دينهم . قلت : فاذهب بي معك إليهم ، قال : لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم ، أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم ، أو فيقتل القوم ، فيكون هلاكهم على يدي ، قلت : لن يظهر مني ذلك ، فاستأمرهم ، فقال : غلام عندي يتيم أحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم .

                                                                                      قالوا : إن كنت تثق به ، قال : أرجو ، قال : فقال لي : ائتني في الساعة التي رأيتني أخرج فيها ، ولا يعلم بك أحد . فلما كانت الساعة تبعته ، فصعد الجبل ، فانتهينا إليهم ، قال علي بن عاصم : أراه قال : وهم ستة أو سبعة ، قال : وكأن الروح قد خرج منهم من العبادة ، يصومون النهار ، ويقومون الليل ، ويأكلون عند السحر ما وجدوا . فقعدنا إليهم ، فتكلموا ، فحمدوا الله ، وذكروا من مضى من الأنبياء والرسل حتى خلصوا إلى ذكر عيسى ، فقالوا : بعث الله عيسى رسولا ، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى ، وخلق الطير ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وكفر به قوم ، وتبعه قوم ، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به [ ص: 527 ] خلقه . وقالوا قبل ذلك : يا غلام إن لك لربا ، وإن لك لمعادا ، وإن بين يديك جنة ونارا إليها تصير ، وإن هؤلاء الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة ليسوا على دين .

                                                                                      فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام ، انصرفت معه ، ثم غدونا إليهم ، فقالوا مثل ذلك وأحسن ، ولزمتهم . فقالوا لي : يا سلمان ، إنك غلام ، وإنك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع ، فصل ونم وكل واشرب . فاطلع الملك على صنيع ابنه ، فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم ، فقال : يا هؤلاء ، قد جاورتموني ، فأحسنت جواركم ، ولم تروا مني سوءا ، فعمدتم إلى ابني ، فأفسدتموه علي ، قد أجلتكم ثلاثا ، فإن قدرت بعدها عليكم ، أحرقت عليكم برطيلكم . قالوا : نعم ، وكف ابنه عن إتيانهم . فقلت له : اتق الله ; فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله ، وأن أباك على غير دين ، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك . قال : هو كما تقول ، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم . قال : فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا ، فقالوا : يا سلمان ، قد كنا نحذر ما رأيت ، فاتق الله ، واعلم أن الدين ما أوصيناك به . فلا يخدعنك أحد عن دينك . قلت ما أنا بمفارقكم . قالوا : فخذ شيئا تأكله ; فإنك لا تستطيع ما نستطيع نحن .

                                                                                      ففعلت ، ولقيت أخي ، فعرضت عليه بأني أمشي معهم ، فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل ، فأتينا بيعة ، فلما دخلوا أحفوا بهم وقالوا : أين كنتم ؟ قالوا : كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى ، بها عبدة النيران ، فطردنا ، فقدمنا عليكم .

                                                                                      فلما كان بعد ، قالوا : يا سلمان ، إن ها هنا قوما في هذه الجبال هم أهل [ ص: 528 ] دين ، وإنا نريد لقاءهم ، فكن أنت ها هنا . قلت : ما أنا بمفارقكم . فخرجوا وأنا معهم ، فأصبحوا بين جبال ، وإذا ماء كثير وخبز كثير ، وإذا صخرة ، فقعدنا عندها .

                                                                                      فلما طلعت الشمس ، خرجوا من بين تلك الجبال ، يخرج رجل رجل من مكانه كأن الأرواح قد انتزعت منهم ، حتى كثروا فرحبوا بهم وحفوا ، وقالوا : أين كنتم ؟ قالوا : كنا في بلاد فيها عبدة نيران . فقالوا : ما هذا الغلام ؟ وطفقوا يثنون علي ، وقالوا : صحبنا من تلك البلاد ، فوالله إنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من كهف ، فجاء فسلم ، فحفوا به ، وعظمه أصحابي ، وقال : أين كنتم ؟ فأخبروه ، فقال : ما هذا الغلام ؟ فأثنوا علي .

                                                                                      فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر رسله ، وذكر مولد عيسى ابن مريم ، وأنه ولد بغير ذكر ، فبعثه الله رسولا ، وأجرى على يديه إحياء الموتى ، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيه ، فيكون طيرا بإذن الله ، وأنزل عليه الإنجيل ، وعلمه التوراة ، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل ، فكفر به قوم ، وآمن به قوم ، إلى أن قال : فالزموا ما جاء به عيسى ، ولا تخالفوا ، فيخالف بكم . ثم قال : من أراد أن يأخذ من هذا شيئا ، فليأخذ .

                                                                                      فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء ، فقام إليه أصحابي الذين جئت معهم ، فسلموا عليه ، وعظموه ، وقال لهم : الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا ، واستوصوا بهذا الغلام خيرا ، وقال لي : يا غلام ، هذا دين الله الذي تسمعني أقوله ، وما سواه الكفر .

                                                                                      قلت : ما أنا بمفارقك . قال : إنك لا تستطيع أن تكون معي ، إني ما أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد . قلت : ما أنا بمفارقك .

                                                                                      قال له أصحابه : يا أبا فلان ، إن هذا لغلام ويخاف عليه . قال لي : أنت أعلم . قلت : فإني لا أفارقك . فبكى أصحابي لفراقي ، فقال : يا غلام ، خذ من هذا الطعام ما يكفيك للأحد الآخر ، وخذ من الماء ما تكتفي به ، ففعلته ، فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا [ ص: 529 ] وساجدا إلى الأحد الآخر . فلما أصبحنا قال : خذ جرتك هذه وانطلق . فخرجت أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة ، وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال ينتظرون خروجه ، فعدوا ، وعاد في حديثه وقال : الزموا هذا الدين ، ولا تفرقوا ، واذكروا الله ، واعلموا أن عيسى كان عبد الله أنعم عليه ، فقالوا : كيف وجدت هذا الغلام ؟ فأثنى علي . وإذا خبز كثير وماء كثير ، فأخذوا ما يكفيهم وفعلت . فتفرقوا في تلك الجبال ، ورجعنا إلى الكهف ، فلبثنا ما شاء الله يخرح كل أحد ويحفون به .

                                                                                      فخرج يوما فحمد الله - تعالى - ووعظهم ، ثم قال : يا هؤلاء ، إنه قد كبر سني ، ورق عظمي ، واقترب أجلي ، وإنه لا عهد لي بهذا البيت مذ كذا وكذا ، ولا بد من إتيانه ، فاستوصوا بهذا الغلام خيرا ; فإني رأيته لا بأس به .

                                                                                      فجزع القوم ، وقالوا : أنت كبير ، وأنت وحدك ، فلا نأمن أن يصيبك الشيء ولسنا عندك ، ما أحوج ما كنا إليك . قال : لا تراجعوني ، فقلت : ما أنا بمفارقك . قال : يا سلمان ، قد رأيت حالي وما كنت عليه ، وليس هذا كذلك ، أنا أمشي أصوم النهار ، وأقوم الليل ، ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولا غيره ، وأنت لا تقدر على هذا . قلت : ما أنا بمفارقك . قال : أنت أعلم .

                                                                                      وبكوا وودعوه ، واتبعته يذكر الله ولا يلتفت ، ولا يقف على شيء ، حتى إذا أمسينا قال : صل أنت ، ونم ، وقم ، وكل ، واشرب . ثم قام يصلي حتى إذا انتهينا إلى بيت المقدس ، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء ، فإذا على باب المسجد مقعد ، فقال : يا عبد الله ، قد ترى حالي ، فتصدق علي بشيء فلم يلتفت إليه ، ودخل المسجد ، فجعل يتبع أمكنة يصلي فيها ، ثم قال : يا سلمان ، لم أنم مذ كذا وكذا ، فإن أنت جعلت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت ; فإني أحب أن أنام في هذا المسجد ، وإلا لم أنم . قلت : فإني أفعل . فنام ، فقلت في نفسي : هذا لم ينم منذ كذا وكذا لأدعنه ينام . [ ص: 530 ] وكان لما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا ، وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا ، ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد حتى قال : يا سلمان ، إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة ، وكان رجلا أعجميا لا يحسن أن يقول محمد ، علامته أنه يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب ، فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه ، فإن أنت أدركته ، فصدقه واتبعه . قلت : وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ، قال : نعم . فإن رضى الرحمن فيما قال .

                                                                                      فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعا يذكر الله تعالى ، فقال : يا سلمان ، مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر الله ، أين ما كنت جعلت على نفسك ؟ قلت : لأنك لم تنم منذ كذا وكذا ، فأحببت أن تستوفي من النوم . فحمد الله وقام .

                                                                                      وخرج فتبعته ، فمر بالمقعد ، فقال : يا عبد الله ، دخلت وسألتك فلم تعطني وخرجت فسألتك فلم تعطني ، فقام ينظر هل يرى أحدا فلم ير ، فدنا منه ، وقال له : ناولني يدك ، فناوله ، فقال : باسم الله ، فقام كأنه نشط من عقال ، صحيحا لا عيب فيه . فانطلق ذاهبا ، فكان لا يلوي على أحد ، ولا يقوم عليه .

                                                                                      فقال لي المقعد : يا غلام ، احمل علي ثيابي حتى أنطلق وأبشر أهلي . فحملت عليه ثيابه ، وانطلق لا يلوي علي ، فخرجت في أثره أطلبه ، فكلما سألت عنه ، قالوا أمامك .

                                                                                      حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم ، [ ص: 531 ] فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره ، فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم ، فباعوني ، واشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها .

                                                                                      وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرت به ، فأخذت شيئا من تمر حائطي وأتيته فوجدت عنده ناسا ، وإذا أبو بكر أقرب الناس إليه ، فوضعته بين يديه ، فقال : ما هذا ؟ قلت : صدقة ، فقال : كلوا ، ولم يأكل . ثم لبثت ما شاء الله ، ثم أخذت مثل ذلك وأتيته به . فوجدت عنده ناسا ، فوضعته بين يديه ، فقال : ما هذا ؟ قلت : هدية . فقال : باسم الله ، وأكل وأكل القوم ، فقلت في نفسي : هذه من آياته .

                                                                                      كان صاحبي رجلا أعجميا لم يحسن أن يقول تهامة ، فقال : تهمة .

                                                                                      قال : فدرت من خلفه ، ففطن لي فأرخى ثوبه ، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر ، فتبينته ، ثم درت حتى جلست بين يديه ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . قال : من أنت ؟ قلت : مملوك ، وحدثته حديثي ، وحديث الذي كنت معه ، وما أمرني به . قال : لمن أنت ؟ قلت : لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها . قال : يا أبا بكر ، قال : لبيك . قال : اشتره . فاشتراني أبو بكر ، فأعتقني . فلبثت ما شاء الله ، ثم أتيته ، فسلمت عليه ، وقعدت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في دين النصارى ؟ قال : لا خير فيهم ولا في دينهم .

                                                                                      فدخلني أمر عظيم ، وقلت في نفسي : الذي أقام المقعد لا خير في هؤلاء ولا في دينهم . فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله ، وأنزل الله على نبيه ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : علي بسلمان . فأتاني الرسول وأنا خائف ، [ ص: 532 ] فجئته فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ذلك بأن منهم قسيسين ثم قال : يا سلمان ، إن الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى ; إنما كانوا مسلمين .

                                                                                      فقلت : والذي بعثك بالحق لهو الذي أمرني باتباعك ، فقلت له : وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ؟ قال : نعم فاتركه ; فإنه الحق
                                                                                      .

                                                                                      هذا حديث جيد الإسناد حكم الحاكم بصحته .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية