الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          استدراك على تفسير ( ولا تزر وازرة وزر أخرى )

                          اعلم أيها المسلم الحريص على دينه أن أهل الحق من سلف الأمة إنما سموا بأهل السنة والجماعة لأنهم ساروا في الاهتداء بالإسلام على السنة ، وهي الطريقة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وسلم في بيان القرآن كما أمره الله تعالى بقوله : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( 16 : 44 ) وتلقاها عنه بالعمل جماعة الصحابة ، وقد أصاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في حصره حجية الإجماع الديني بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وما روي من الآثار في شذوذ أفراد عما ثبت عمل الجمهور به فلا يعتد به ، فعمل الجمهور هو السنة وهم الجماعة . والأقوال وحدها لا يتبين بها المراد بيانا قطعيا لا يحتمل التأويل كالأفعال وإن كانت في غاية الجلاء والوضوح ، ولذلك قال علي المرتضي كرم الله تعالى [ ص: 225 ] وجهه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما عندما أرسله لمحاجة الخوارج : احملهم على السنة فإن القرآن ذو وجوه . فمراد بالسنة ما ذكرناه من معناها الموافق للغة لا المعنى الاصطلاحي للمحدثين وسائر علماء الشرع الذي يشمل الأخبار القولية وغيرها ; فإن هذه الأخبار ذات وجوه أيضا ، وربما كانت وجوهها التي يتوجه إليها أهل التأويل أكثر من وجوه القرآن لأنها دونه في الفصاحة والبلاغة والبيان ; ولذلك أوجز القرآن في بيان أحكام الدين العملية ووكل بيانها لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحال في بيانها على العمل فقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " .

                          أقول هذا تمهيدا لتذكيرك بعدم الاغترار بما لعلك اطلعت أو تطلع عليه من الوجوه التي حمل عليها بعض المتفقهة والمصنفين في تفسير قوله تعالى في سورة النجم : ( ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ( 53 : 38 ، 39 ) فحرفوا الكلم عن مواضعه تارة بالتأويلات السخيفة . وتارة بدعوى النسخ الباطلة ، وتارة بدعوى أن هاتين الآيتين من شريعة إبراهيم وموسى لا من شرعنا ، وتارة بتخصيصهما بالكفار دون المسلمين وقد غفل هؤلاء عن كون مضمون الآيتين من قواعد الدين وأصول الإسلام الثابتة على ألسنة جميع الرسل ، ومؤيدا بآيات كثيرة بلفظها ومعناها كآية الأنعام التي نكتب هذا تتمة لتفسيرها ، وآية سورة فاطر : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير ) ( 35 : 18 ) والآيات الكثيرة المعلقة للفلاح والخسر ودخول الجنة والنار بالأعمال ، والآيات الناطقة بأن الناس لا يجزون إلا بأعمالهم ، وإنما يجزون بأعمالهم هكذا بصيغتي الحصر الذي تعد دلالته أقوى الدلالات في بيان المراد ; ولذلك عبر عن التوحيد الذي هو أساس أركان الدين كلها . وهذه القاعدة في الجزاء من أصول الدين وهي مقررة للتوحيد أيضا كما بيناه في تفسيرها مفصلا وأشرنا فيه إلى بعض تلك الآيات .

                          أما هؤلاء المقلدون من المتأخرين فسبب غفلتهم وتأويلهم أنهم يحاولون تصحيح كل ما فشا من البدع بين أقوامهم والمنسوبين إلى مذاهبهم وليسوا من أهل الدليل ، ولكنهم لا يتركون ضلالة التأويل . وأما أهل النظر في أدلة المذاهب منهم فلا هم لهم من النظر في الكتاب والسنة إلا أخذ ما يرونه مؤيدا لمذاهبهم وترك ما سواه بضرب من التأويل ، أو دعوى النسخ أو احتماله بغير دليل .

                          ولو كان هؤلاء المقلدون العميان هم الذين جوزوا وحدهم للناس إهداء عباداتهم للموتى [ ص: 226 ] ولكن تابعهم على ذلك بعض علماء السنة من أهل الأثر والنظر ; إذ ظنوا أن الأحاديث التي أشرنا إليها في الدعاء للموتى والإذن للأولاد بأن يقضوا ما على والديهم من صيام أو صدقة أو نسك - تدل على انتفاع الموتى بعبادات الأحياء مطلقا ، غافلين عن حصر ما ورد من ذلك في الصحيح في الأولاد الذين خص الشارع المؤمنين منهم بذلك في الوقائع التي سئل عنها . وحديث " صام عنه وليه " يتعين أن يراد بالولي منه الولد ليوافقها مع سائر الآيات ; إذ لا يمكن تأويلها كلها وهي من الأصول الصريحة القطعية لأجل حمله على عموم الأولياء وهو غير متعين على أن عائشة الراوية له كانت تصرح بعدم جواز صيام أحد عن أحد عملا بالنصوص العامة كما تقدم ، وقد قال الطحاوي من علماء الأثر : إنه منسوخ . وما قلناه أولى لجمعه بين الروايات وموافقته للآيات ولعمل أهل المدينة الذي هو حجة مالك . وهو هنا مؤيد لعمل الصحابة عموما وخصوصا لا حجة مستقلة . وقد سقط بهذا الجمع كل ما يتعلق بإطلاق الجواز من الأقوال .

                          وأما الدعاء لأموات المسلمين ولأحيائهم فهو عبادة لا ينتقل ثوابها من الداعي إلى المدعو له ولم يرو في إهداء ثواب الدعاء شيء بل ثوابه للداعي وحده سواء استجابه الله أم لا ، وإنما ينتفع المدعو له بالاستجابة ، واستجابة الدعاء للأحياء والأموات لا يمكن أن تكون بما ينقض قواعد الشرع ، ولا بما يبطل سنن الله تعالى في الكون فنفوض الأمر في صفته إلى الله تعالى ونكتفي من العلم بفائدة الدعاء لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وغيرهم أنه عبادة مشتملة على تحاب المؤمنين وتكافلهم واهتمامهم بأمر سعادتهم في الدنيا والآخرة . وما عدا الدعاء من العبادات فإنما ورد الإذن فيه للأولاد ، وولد المرء من عمله فانتفاعه بعمله يدخل في القاعدة لا أنه يعارضها . ولو كان الإذن عاما لكثر عمل الصحابة به ، وروي مستفيضا أو متواترا عنهم لتوافر الدواعي على نقله ; فإن من دأب البشر وطباعهم الراسخة الاهتمام بكل ما يتعلق بأمر موتاهم . وقد نقل الرواة من التابعين كل ما رأوه وعلموا به من أعمال الصحابة رضي الله عنهم .

                          كتبت هذا لأنني بعد كتابة ما تقدم من تفسير الآية وطبعه راجعت ما كتبه العلامة المحقق ابن القيم في هذه المسألة في كتاب الروح ، فوجدته قد أطنب فيها وأطال كعادته بما لم يطل به غيره ولا قارب ، وأورد كل ما قيل وما تصور أن يقال في إثبات وصول ثواب أعمال الأحياء إلى الأموات مطلقا ، ونفيه مطلقا أو مقيدا بما تسبب إليه الميت في حياته أو بالعبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج دون غيرها كالتلاوة والصلاة وكذا ما وقع فيه الخلاف من فروع المسألة - وذكر حجج كل فريق ورد المخالفين عليها ، وأكثرها نظريات باطلة ولكنه على سعة اطلاعه ودقة فهمه قد غفل عن كون الأحاديث التي جعلها [ ص: 227 ] حجة المثبتين الوحيدة على انتفاع أموات المسلمين بأي عمل يهدى إليهم ثوابه من عمل أحيائهم قد وردت في أعمال خاصة ورخص للأولاد وحدهم أن يقوموا بها عن والديهم وهو لم ينس من حجج المانعين لوصول ثواب قراءة القرآن ونحوها عدم نقل شيء من ذلك عن السلف ولكنه وهو من أكبر أنصار أتباع السلف قد أجاب عن هذه الحجة بجواب ضعيف جدا فقال : " فإن قيل فهذا لم يكن معروفا في السلف لا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ، ولا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه ، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام . فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه " .

                          " فالجواب أن مورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار ، قيل له : ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال ؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات ؟ وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية