الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 312 ] ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين )

لما دنا فرج يوسف - عليه السلام - رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته ، فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ، وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها . ( أرى ) يعني في منامه ، ودل على ذلك : أفتوني في رؤياي ، و ( أرى ) حكاية حال ، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت ، و ( سمان ) صفة لقوله : ( بقرات ) ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن ، ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع ، ويلزم من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به ، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به ؛ لأنه يصير المعنى سبعا من البقرات سمانا ، وفرق بين قولك : عندي ثلاث رجال كرام ، وثلاثة رجال كرام ؛ لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام ، فيلزم كرم الثلاثة ؛ لأنهم بعض من الرجال الكرام ، والمعنى في الثاني ثلاثة من الرجال كرام ، فلا يدل على وصف الرجال بالكرم ، ولم يضف ( سبع ) إلى ( عجاف ) لأن اسم العدد لا يضاف إلى الصفة إلا في الشعر ، إنما تتبعه الصفة ، وثلاثة فرسان ، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء ، ودل قوله : ( سبع بقرات ) على أن السبع العجاف بقرات ، كأنه قيل : سبع بقرات عجاف ، أو بقرات سبع عجاف ، وجاء جمع عجفاء على عجاف ، وقياسه عجف كخضراء أو خضر ، حملا على سمان ؛ لأنه نقيضه ، وقد يحمل النقيض على النقيض ، كما يحمل النظر على النظير ، والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات ، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله : ( وأخر يابسات ) لدلالة قسميه وما قبله عليه ، فيكون التقدير : وسبعا أخر يابسات ، ولا يصح أن يكون ( وأخر ) مجرورا عطفا على ( سنبلات خضر ) لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز ( سبع ) ، ومن جهة كونه ( أخر ) كان مباينا لـ ( سبع ) ، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات ، فإنه كان يصح العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات ، و ( الملأ ) أشراف دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك ، وقرأ أبو جعفر : بالإدغام في الرؤيا ، وبابه بعد قلب الهمزة واوا ، ثم قلبها ياء ، لاجتماع الواو والياء ، وقد سبقت إحداهما بالسكون ، ونصوا على شذوذه ؛ لأن الواو هي بدل غير لازم ، واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه ، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول : زيد ضارب لعمر وفصيحا ، والظاهر أن خبر ( كنتم ) هو قوله : ( تعبرون ) ، وأجاز الزمخشري فيه وجوها متكلفة ؛ أحدها : أن تكون الرؤيا للبيان قال : كقوله : ( وكانوا فيه من الزاهدين ) فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه ، وكذلك تقدير هذا ( إن كنتم ) أعني الرؤيا ( تعبرون ) ويكون مفعول ( تعبرون ) محذوفا تقديره تعبرونها .

والثاني : أن تكون ( الرؤيا ) خبر كان قال : كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه ، و ( تعبرون ) خبرا آخر أو حالا .

والثالث : أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام ، كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا ، وعبارة الرؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط ، فكان عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها ، وعبر الرؤيا بتخفيف الباء ثلاثيا وهو المشهور ، وأنكر بعضهم [ ص: 313 ] التشديد ، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر :


رأيت رؤيا ثم عبرتها وكنت للأحلام عبارا

و ( أضغاث ) جمع ضغث ؛ أي : تخاليط أحلام ، وهي ما يكون من حديث النفس ، أو وسوسة الشيطان ، أو مزاج الإنسان ، وأصله أخلاط النبات ، استعير للأحلام ، وجمعوا الأحلام ، وأن رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء ، وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول : فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا واحدا ، تعليقا بالجنس ، وإما بكونه قص عليهم مع هذه الرؤيا غيرها ، والأحلام : جمع حلم ، و ( أضغاث ) خبر مبتدأ محذوف أي : هي أضغاث أحلام ، والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي : لسنا من أهل تعبير الرؤيا ، ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط والأباطيل ؛ أي : وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين ؛ أي : لا يتعلق علم لنا بتأويل تلك ؛ لأنه لا تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح ، فلا يكون في ذلك نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح ، ولا تصور علمهم ، والباء في ( بتأويل ) متعلقة بقوله : ( بعالمين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية