الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        [ ص: 28 ] 116 - حدثنا بذلك أبو بكرة قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عبد الله بن المساور أو ابن أبي المساور قال : سمعت ابن عباس يعاتب ابن الزبير في البخل ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع

                                                        فلم يرد بذلك أنه ليس بمؤمن إيمانا خرج بتركه إياه إلى الكفر ، ولكنه أراد به أنه ليس في أعلى مراتب الإيمان ، وأشباه هذا كثيرة ، يطول الكتاب بذكرها .

                                                        فكذلك قوله: لا وضوء لمن لم يسم لم يرد بذلك أنه ليس بمتوضئ وضوءا لم يخرج به من الحدث ، ولكنه أراد أنه ليس بمتوضئ وضوءا كاملا في أسباب الوضوء الذي يوجب الثواب .

                                                        فلما احتمل هذا الحديث من المعاني ما وصفنا ولم يكن هناك دلالة يقطع بها لأحد التأويلين على الآخر وجب أن يجعل معناه موافقا لمعاني حديث المهاجر ... لا يتضادا .

                                                        فثبت بذلك أن الوضوء بلا تسمية يخرج به المتوضئ من الحدث إلى الطهارة .

                                                        وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنا رأينا أشياء لا يدخل فيها إلا بكلام .

                                                        منها العقود التي يعقدها بعض الناس لبعض من البياعات والإجارات والمناكحات والخلع وما أشبه ذلك .

                                                        فكانت تلك الأشياء لا تجب إلا بأقوال وكانت الأقوال منها إيجاب ؛ لأنه يقول ( قد بعتك ، قد زوجتك ، قد خلعتك ) .

                                                        فتلك أقوال فيها ذكر العقود .

                                                        وأشياء تدخل فيها بأقوال وهي الصلاة والحج ، فتدخل في الصلاة بالتكبير ، وفي الحج بالتلبية .

                                                        فكان التكبير في الصلاة والتلبية في الحج ركنا من أركانها .

                                                        ثم رجعنا إلى التسمية في الوضوء ، هل تشبه شيئا من ذلك ؟ فرأيناها غير مذكور فيها إيجاب شيء كما كان في النكاح والبيوع .

                                                        فخرجت التسمية لذلك من حكم ما وضعنا ، ولم تكن التسمية أيضا ركنا من أركان الوضوء كما كان التكبير ركنا من أركان الصلاة ، وكما كانت التلبية ركنا من أركان الحج ، فخرج أيضا بذلك حكمها من حكم التكبير ، والتلبية .

                                                        فبطل بذلك قول من قال : إنه لا بد منها في الوضوء كما لا بد من تلك الأشياء فيما يعمل فيه .

                                                        فإن قال قائل : فإنا قد رأينا الذبيحة لا بد من التسمية عندها ، ومن ترك ذلك متعمدا لم تؤكل ذبيحته ، فالتسمية أيضا على الوضوء كذلك .

                                                        قيل له : ما ثبت في حكم النظر أن من ترك التسمية على الذبيحة متعمدا أنها لا تؤكل ، لقد تنازع الناس في ذلك .

                                                        فقال بعضهم : تؤكل ، وقال بعضهم : لا تؤكل . فأما من قال تؤكل فقد كفينا البيان لقوله .

                                                        وأما من قال لا تؤكل ، فإنه يقول : إن تركها ناسيا تؤكل ، وسواء عنده كان الذابح مسلما أو كافرا ، بعد أن يكون كتابيا .

                                                        فجعلت التسمية هاهنا في قول من أوجبها في الذبيحة ، إنما هي لبيان الملة .

                                                        [ ص: 29 ] فإذا سمى الذابح صارت ذبيحته من ذبائح الملة المأكولة ذبيحتها ، وإذا لم يسم جعلت من ذبائح الملل التي لا تؤكل ذبائحها .

                                                        والتسمية على الوضوء ليس للملة إنما هي مجعولة لذكر على سبب من أسباب الصلاة فرأينا من أسباب الصلاة الوضوء وستر العورة ، فكان من ستر عورته لا بتسمية ، لم يضره ذلك .

                                                        فالنظر على ذلك ، أن يكون من تطهر أيضا ، لا بتسمية ، لم يضره ذلك . وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية