الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثاني والستون والمائتان بين قاعدة الرضا بالقضاء ، وبين قاعدة عدم الرضا بالمقضي ) اعلم أن كثيرا من الناس يلتبسان عليه فلا يفرق بين السخط بالقضاء وعدم الرضا به ، والسخط

[ ص: 229 ] بالمقضي وعدم الرضا به اعلم أن السخط بالقضاء حرام إجماعا والرضا بالقضاء واجب إجماعا بخلاف المقضي ، والفرق بين القضاء والمقضي والقدر والمقدور أن الطبيب إذا وصف للعليل دواء مرا ، أو قطع يده المتآكلة ، فإن قال : بئس ترتيب الطبيب ، ومعالجته ، وكان غير هذا يقوم مقامه مما هو أيسر منه فهو تسخط بقضاء الطبيب وأذية له ، وجناية عليه بحيث لو سمعه الطبيب كره ذلك وشق عليه ، وإن قال : هذا دواء مر قاسيت منه شدائد ، وقطع اليد حصل لي منها آلام عظيمة مبرحة فهذا تسخط بالمقضي الذي هو الدواء والقطع لا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ، ومعالجته فهذا ليس قدحا في الطبيب ، ولا يؤلمه إذا سمع ذلك بل يقول له : صدقت الأمر كذلك فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء بل عدم رضا بالمقضي ، وإن قال : أي شيء عملت حتى أصابني مثل هذا ، وما ذنبي وما كنت أستأهل هذا فهذا عدم رضا بالقضاء فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء ، ولا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم ، ولا نعترض عليه في ملكه وأما أنا أمرنا بأن تطيب لنا البلايا والرزايا

[ ص: 230 ] ومؤلمات الحوادث فليس كذلك ، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد بما ليس في طبعه ، ولم يؤمر الأرمد باستطابة الرمد المؤلم ، ولا غيره من المرض بل ذم الله قوما لا يتألمون ، ولا يجدون للبأساء وقعا فذمهم بقوله - تعالى : { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } فمن لم يسكن ولم يذل للمؤلمات ويظهر الجزع منها ويسأل ربه إقالة العثرة منها فهو جبار عنيد بعيد عن طرق الخير فالمقضي والمقدور أثر القضاء والقدر فالواجب هو الرضا بالقضاء فقط أما المقضي فقد يكون الرضا به واجبا كالإيمان بالله - تعالى - والواجبات إذا قدرها الله - تعالى - للإنسان ، وقد يكون مندوبا في المندوبات وحراما في المحرمات والرضا بالكفر كفر ومباحا في المباحات ، وأما بالقضاء فواجب على الإطلاق من تفصيل فمن قضي عليه بالمعصية أو الكفر الواجب عليه أن يلاحظ جهة المعصية والكفر فيكرههما وأما قدر الله فيهما فالرضا به ليس إلا ومتى سخطه وسفه الربوبية في ذلك كان ذلك معصية أو كفرا منضما إلى معصيته وكفره على حسب حاله في ذلك فتأمل هذه الفروق ، وإذا وضحت لك فاعلم أن كثيرا من الناس يعتقد أن الرضا بالقضاء إنما يحصل من الأولياء وخاصة عباد الله - تعالى ؛ لأنه من العزيز الوجود ، وليس كذلك بل أكثر العوام من المؤمنين إنما يتألمون من المقضي فقط ، وأما التوجه إلى جهة الربوبية بالتجوير والقضاء بغير العدل ، فهذا لا يكاد يوجد إلا نادرا من الفجار والمردة وإنما يبعث

[ ص: 231 ] هؤلاء على قولهم : إن الرضا بالقضاء إنما يكون من جهة الأولياء خاصة أنهم يعتقدون أن الرضا بالقضاء هو الرضا بالمقضي وعلى هذا التفسير هو عزيز الوجود بل هو كالمتعذر فإنا نجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تألم لقتل عمه حمزة وموت ولده إبراهيم ورمي عائشة بما رميت به إلى غير ذلك ؛ لأن هذا كله من المقضي ونجزم بأن الأنبياء عليهم السلام طباعهم تتألم وتتوجع من المؤلمات وتسر بالمسرات وإذا كان الرضا بالمقضيات غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى فالرضا بهذا التفسير لا طمع فيه ، وهذا التفسير غلط بل الحق ما تقدم ، وهو متيسر على أكثر العوام من المؤمنين فضلا عن الأنبياء والصالحين فاعلم ذلك

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثاني والستون والمائتان بين قاعدة الرضا بالقضاء وعدم الرضا بالمقضى ) قلت : ما قاله فيه صحيح ما عدا قوله : والرضا بالكفر كفر فإنه إن أراد مع علمه بكفره فذلك لا يتأتى إلا من الكافر عنادا على القول بجواز ذلك عادة ، وأما على القول بامتناع ذلك عادة فلا ، وما عدا قوله فمن قضي عليه بالمعصية أو الكفر فالواجب عليه أن يلاحظ جهة المعصية والكفر فيكرههما ، وأما قدر الله - تعالى - فيهما فالرضا به ليس إلا ومتى سخطه وسفه الربوبية في ذلك كان ذلك معصية أو كفرا منضما إلى معصيته وكفره على حسب حاله في ذلك فإن كراهة الكفر [ ص: 229 ] لا يتأتى إلا مع الكفر عنادا على أن ذلك من البعيد المشبه بالمحال ؛ لأنه لا كفر عنادا إلا لحامل يحمله عليه ويرجحه عنده فكراهيته إياه مع رجحانه عنده كالمتناقضين ، وأما كراهيته المعصية فهي ممكنة ؛ لأن كل عاص عالم بعصيانه والله - تعالى - أعلم . [ ص: 230 - 231 ]



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الرابع والستون والمائتان بين قاعدة الرضا بالقضاء وبين قاعدة عدم الرضا بالمقضي )

وهو أن القضاء قيل : مرادف للقدر ، وهو خلاف قول الجمهور لكنه قوي وعليه فهل هما إرادة فقط أو إرادة وعلم أو هما وقدرة أقوال ثلاثة ، والذي عليه الجمهور تباينهما وعليه فقيل : القضاء إرادة والقدر إيجاد ممكن وقيل : بالعكس أي القضاء إيجاد ممكن والقدر إرادة وقال السنوسي : القدر تعلق القدرة والعلم معا في الأزل بالممكن ، والقضاء إجراء الممكن على وفق ما مضى به القدر والعلم وقال القرافي : القدر تعلق الإرادة في الأزل بالممكن والقضاء الإرادة بحكم خبري كإرادته - تعالى - لزيد بالسعادة مع إخباره بكلامه وقد نظم الرهوني حاصل هذا بقوله

وفي تباين القضاء والقدر أو الترادف خلاف اشتهر والأول المعزو للجمهور
والثاني قول ليس بالمهجور ثم عليه هل هما إرادة
أوتي وعلم أو هما وقدرة ثم على الأول أيضا اختلف
على أقاويل فهاك ما عرف قيل القضاء إرادة ثم القدر
إيجاد ممكن وعكس ذا اشتهر وللسنوسي الإمام وقعا
تعلق القدرة والعلم معا في أزل قل قدر ثم القضا
إجراء ممكن بوفق ما مضى أو قدر تعلق الإراده
في أزل فحصل الإفاده ثم الإرادة بحكم خبري
قضي وهذا للقرافي السري

[ ص: 249 ] وعلى كل من هذه الأقوال فالرضا بالقضاء واجب إجماعا ، والسخط وعدم الرضا به حرام إجماعا ؛ لأنا مأمورون بأن لا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم ، ولا نتعرض عليه في ملكه بأن يقول أحدنا ساخطا لقضائه - تعالى - : أي شيء عملت حتى أصابني مثل هذا وما ذنبي وما كنت أستأهل هذا وفي الزواجر أخرج أبو نعيم { من سخط رزقه وبث شكواه ولم يصبر لم يصعد له إلى الله عمل ولقي الله وهو عليه غضبان } . ا هـ .

وأما المقضي والمقدور فهو أثر القضاء والقدر وليس الرضا به واجبا على الإطلاق كما هو زعم من يعتقد أن الرضا بالقضاء هو الرضا بالمقضي حتى بعث هؤلاء ذلك على قولهم : إن الرضا بالقضاء إنما يكون من جهة الأولياء خاصة فهو عزيز الوجود بل هو كالمتعذر ، وإنما الصواب أن الرضا به قد يكون واجبا كالإيمان بالله - تعالى - والواجبات إذا قدرها الله - تعالى - للإنسان ، وقد يكون مندوبا كما في المندوبات وحراما كما في المحرمات نعم الرضا بالكفر لا يكون كفرا كما زعم الأصل إلا إذا كان مع علمه بكفره ، وهو لا يتأتى إلا من الكافر عنادا بناء على القول بجواز ذلك عادة أما على القول بامتناع ذلك عادة فلا على أن جواز الكفر عناد عادة من البعيد المشبه بالمحال ؛ لأنه لا كفر عنادا إلا لحامل يحمله عليه ويرجحه عنده ، وكراهيته إياه مع رجحانه عادة كالمتناقضين ، وأما كراهية المعصية فهي ممكنة ؛ لأن كل عاص عالم بعصيانه قاله ابن الشاط ، وقد يكون مباحا كما في المباحات من نحو البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث فإنا ما أمرنا بأن تطيب لنا ؛ إذ هو تكليف بما ليس في طبع المكلف ، والشريعة لم ترد بتكليف أحد بما ليس في طبعه فالأرمد مثلا لم يؤمر باستطابة الرمد المؤلم بل ذم الله قوما لا يتألمون ، ولا يجدون للبأساء وقعا بقوله - تعالى - { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } فمن لم يستكن ولم يذل للمؤلمات ويظهر الجزع منها ، ويسأل ربه إقالة العثرة منها فهو جبار عنيد بعيد عن طرق الخير ، وأن الرضا بالقضاء ليس بنادر ، ولا متعذر فإن أكثر العوام من المؤمنين إنما يألمون من المقضي فقط .

وأما التوجه إلى جهة الربوبية بالتجوير ، والقضاء بغير العدل فهذا لا يكاد يوجد إلا نادرا من الفجار [ ص: 250 ] والمردة ، وإنا نجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تألم لقتل عمه حمزة وموت ولده إبراهيم ورمي عائشة بما رميت به إلى غير ذلك ؛ لأن هذا كله من المقضي ونجزم بأن الأنبياء عليهم السلام طباعهم تتألم ، وتتوجع من المؤلمات ، وتسر بالمسرات وإذا كان الرضا بالمقضيات غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى ، وبالجملة فالحق تفسير الرضا بالقضاء بما قلنا لا بما قالوا ، وهو بتفسيرنا متيسر على أكثر العوام من المؤمنين فضلا عن الأنبياء والصالحين وبتفسيرهم لا طمع فيه فهو غلط هذا تهذيب ما صححه ابن الشاط من كلام الأصل مع زيادة ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم ( تنبيه )

كون المقضي يكون خيرا أو شرا ، ولا يجب الرضا به إنما هو بحسب كسبنا ، وأما باعتبار خلق الله إياه فحسن يجب الرضا به ؛ إذ كل ما صدر عنه - سبحانه وتعالى - فضل أو عدل في عبيده ولسيدي محمد وفا رضي الله عنه

سمعت الله في سري يقول أنا في الملك وحدي لا أزول
وحيث الكل مني لا قبيح وقبح القبح من حيثي جميل

وتوضيح ذلك أن الفعل له جهتان كونه مقضيا له - تعالى - وكونه مكتسبا للعبد فيجب على العبد الرضا بالقدر أي ما يقع من العبد المقدر في الأزل .

وهو المقدور من الجهة الأولى لا الثانية ، ولذلك قيل : يجب الإيمان بالقدر ، ولا يحتج به روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره } وروى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال صلى الله عليه وسلم { كل شيء بقدر حتى العجز والكيس } وأما نحو قوله تعالى { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } فوارد على سبيل الإنكار أي كيف تكون هذه التفرقة ، أو محمول على مجرد السببية روي لأصبغ بن نباتة أن شيخا قام إلى علي رضي الله عنه بعد انصرافه من صفين فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله - تعالى ، وقدره فقال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ، ولا هبطنا واديا ، ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال له : مه أيها الشيخ عظم الله أجركم في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين . ولا إليها مضطرين فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا فقال : ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم [ ص: 251 ] تأت لائمة من الله لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها . ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا { ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما قال هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ا هـ أفاده العطار في حاشيته على محلى جمع الجوامع قلت : ومن هنا يظهر أن ما للأصل من الرضا بالقضاء غير الرضا بالمقضي مبني على اعتبار الجهة الثانية للمقضي ، وأن اعتقاد من يعتقد أن الرضا بالقضاء هو الرضا بالمقضي مبني على اعتبار الجهة الأولى للمقضي نعم لا يظهر قولهم : إن الرضا بالقضاء إنما يكون من جهة الأولياء إلخ فتأمل بإنصاف ولا تنظر لمن قال ، بل لما قال كما هو دأب الرجال من ذوي الكمال




الخدمات العلمية