الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إن ذبح الشاة وشواها فلك قيمتها ، وكذلك لو لم يشوها ، وقال ابن مسلمة : إذا لم يشوها فلك أخذها مذبوحة وما نقصها الذبح . قال التلمساني : وقيل يأخذ المذبوحة بغير شيء قاله مالك ؛ لأنه لزمته القيمة فلا يأخذ غيرها ولا يأخذ بعضها وبقيتها سلعة إلا باتفاقهما على أمر جائز ، ويمتنع تراضيهما بأخذها

                                                                                                                [ ص: 20 ] لوجوب القيمة في الذمة ؛ لأنه معاوضة عن القيمة بلحم شاة ودراهم فهي مسألة مدعوجة ودرهم ، وهذا موضع اضطربت فيه الآراء واختلفت فيه المذاهب ، وصعبت المدارك ، وكثر التشنيع حتى قال بعض الشافعية : إذا طحن القمح وعملها خبزا فجاء ربها يأخذه وهو ملك الغاصب على زعمكم ، فللغاصب مقاتلة رب الحنطة ، فإن قتل رب الحنطة فشر قتيل ، لأنه صار محاربا عندكم ، وإن قتل الغاصب فشهيد لأنه قتل دون ماله ، وهذا عكس للحقائق ، وقلب للطرائق ، ولذلك قلنا في الحنطة تزرع أو تطحن أو البيض يحضن والمعادن تعمل آنية أو يصاغ حليا أو دراهم ، أو الساجة تشق وتعمل أبوابا ، أو التراب يعمله طينا : يتملكه الغاصب شرط تغير اسمه وإبطال معظم منفعته ، ثم لا يتصرف الغاصب في شيء من ذلك حتى يؤدي إلى المالك قيمته ، وهذا حكم السرقة ، ووافقنا ( ح ) وخالفنا ( ش ) وابن حنبل في ذلك كله ، وقالا : يرد ذلك وما نقص ، وهذا هو المنقول عن أبي حنيفة ، غير أني رأيتهم في كتبهم يستثنون من هذا الأصل ذبح الشاة ، ويوافقوننا في غيره ، ويقولون فيه بأخذ الشاة إذا ذبحت بغير شيء ، أو قيمتها يوم الغصب مع الأرش ، وفي الجواهر : قال عبد الملك : له أخذ الفضة المصاغة والثوب المصبوغ والمخيط ، كما قاله ( ش ) . لنا : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافه قوم من الأنصار في بيوتهم فقدموا له شاة مصلية فتناول منها لقمة فجعل يمضغها فلا يسيغها فقال - عليه السلام - : إن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير حق ، فقالوا يا رسول الله : هي لجار لنا ونحن نرضيه من ثمنها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعموها الأسارى ) . ولولا أن الملك حصل لهم لأمر بردها إلى مالكها . قال ابن المديني : هذا الحديث مرسل وراويه عاصم بن كليب وهو ضعيف فيما ينفرد راويه . وقد أوردوا عليه أنه يحتمل أنه - عليه السلام - فعل ذلك نظرا ‌‌ [ ص: 21 ] للمالك ليلا تفسد الشاة عليه ، فرأى أن يشد بها خلة الأسارى ويعوضه من بيت المال ، ولو ملكها الذابح لما انتزعها - عليه السلام - منه للأسارى ، والجواب : أنا لا نسلم أن مالكها كان غائبا حتى ينظر الإمام في ماله ، والأصل : عدم الغيبة ، بل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالإطعام دليل ملكهم ، وإلا كان - عليه السلام - يطعمها من قبل نفسه ، وأمره لهم مع أنهم مالكون : إما لأنهم لم يدفعوا الثمن بعد كما قال ( ح ) أو كانوا فقراء لا يملكون كما قال المالكية ، أو على وجه الكراهة ؛ لأنه لا خلاف أن أكلها مكروه ، للخلاف في انتقال الملك ، ويؤكد قولنا : أن الغاصب عندهم يضمن ما نقص ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لتقويمها ليعلم ما نقصت ، فدل ذلك على أن الصدقة بها كانت لما ذكرناه ، وبالقياس على استيلاد الأب لجارية ابنه ، وأحد الشريكين الجارية المشتركة بجامع إذهاب جل المنافع ، ولأن الخشبة إذا عملت أبوابا ذهب جل مقصودها ، وزالت تلك المالية ، وحدثت مالية أخرى ، كما أن مالية الفحم تجددت وعدمت مالية الخشبة ، وهذه المالية الحادثة منسوبة لفعل الغاصب ، فينسب الملك له إحالة للحكم على سببه ، كالاصطياد بكلب الغير ، والاحتطاب بفأسه ، وكالموت بعد الجراحة يحال على الجراحة ، واتفقنا أنه لو علف دوابه الطعام فسمنت انتقل الملك في الطعام ، وكذلك هاهنا ، ثم إن نفرض الكلام في تحضين البيض وصار دجاجا ، والحنطة قصيلا ، والنواة نخلة ، فقد استهلكت الأعيان الأول ، وحدثت أعيان وصور أخرى وأحكام ، أما الأول فبالحس ، وأما الأحكام فلو حلف أن لا يأكل من هذه الأعيان لم يحنث‌‌ بهذه المتجددات ، ولأن مذهبكم يؤدي إلى أنه يغصب جمادا فيؤدي حيوانا وليس عين المغصوب ولا مثله ولا قيمته ، لأنه لو استقرض حنطة لم يرد دقيقها ، والكل باب ضمان ، فلو صح في أحدهما صح في الآخر ، وإذا ظهر الدليل في هذه الصور ظهر فيه بقية صور النزاع ؛ لأنه لا قائل بالفرق ، ولأنه قبض [ ص: 22 ] وقع في الحنطة فلا يطلب برد الدقيق ، كما لو غصبها وأتلفها أو اشتراها فطحنها ثم وجد بها عيبا فلا يفسخ العقد ، ويرد الدقيق ، احتجوا : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ليس لعرق ظالم حق ) ولأن ملك المالك معلل بالمالية لا بالحنطة ، والطحن لم يذهب المالية ؛ ولأنه فعل لو فعله في ملكه لم يزل ملكه عنه به ، فإذا فعله الغير لم يزل ملكه ، وكما لو فعله بإذن المالك بل أولى ، لأن العدوان يناسب عدم انتقال الملك إليه ، والإذن مناسب له أكثر ، فإذا لم ينتقل بالمناسب لا ينتقل بغير المناسب ، لأن الملك نعمة ، والمعصية لا تناسب النعمة ، ولأن ذبح الغاصب عدوان ، فانضاف عدوان إلى عدوان ، فتعذرت المناسبة جدا ، ولأن الغاصب لو كان يملك بهذه الأفعال لملك البائع بها المشتري ، ( إذا فعلها قبل القبض بل أولى ؛ لأن ملك المشتري ) غير مستقر قبل القبض بخلاف ملك المغصوب منه ، ولأن ذهاب جل المنافع لو كان يزيل الملك بفعل الغاصب لأزاله بغير فعله ، كذهاب الروح ، فإنه يزيل الملك حصل بفعله أم لا ، ولأنه لم يحصل إلا تفريق الأجزاء ، فلا ينقل الملك ، كما لو غصبها مقلية فطحنها ، أو كما لو غصب رغيفا وفتته لبابا ، ولأنه لو ملك العين لملك جميع جهات التصرف عملا بالملك السالم عن معارضة الحجر ، وقد منعتم التصرف حتى يعطي القيمة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن المراد به إذا بقي اسم المغصوب ومعناه ، بدليل مسألة العلف واستيلاد جارية الابن .

                                                                                                                عن الثاني : أنه معلل بالحنطة ومالية الحنطة ، بدليل أن من أتلف حنطة وجب عليه رد الاسم والمعنى ، ولو كان معللا بمطلق المالية كيف كانت ، سلمنا أنه معلل بالمالية ، فلم قلتم : إنه إذا فوتها بالطحن والخبز يجبر مالية الحنطة بمالية

                                                                                                                [ ص: 23 ] الخبز ، ثم ينتقض بمن غصب عسلا وسمنا وأذابه ، أو خلط الزيت بأجود منه ، أو أردأ .

                                                                                                                عن الثالث : النقض باستيلاد الأب جارية ابنه ، وبالعلف وخلط الزيت ، ولأنه إذا فعل ذلك في ملكه لم يمكن أن يزول الملك ، لأنه لو زال لزال الأهلية ، لأنه مصدر السبب ، ولو زال إليه لزم تحصيل الحاصل ، لأنه مالك قبل ذلك ، وهاهنا ينتقل الملك إلى غيرها لك ، فلا يلزم تحصيل الحاصل فافترقا .

                                                                                                                عن الرابع : وهو قولكم : المعصية لا تناسب نعمة الملك فينتقض باستيلاد الأب ، وفيه ضم عدوان إلى عدوان ، فإن الأب غاصب ، ووطأه حرام ، ومع ذلك ملك أمة ابنه بذلك .

                                                                                                                عن الخامس : أن البائع إذا قصد الغصب منعنا عدم انتقال الملك ، ثم ينتقض بالنقوض المتقدمة .

                                                                                                                عن السادس : أن فعل الإنسان يناسب أن يتجدد له به ملكه ، أما غير فعله فلا يدخل إلا قهرا كالميراث .

                                                                                                                عن السابع : منع الحكم ، بل ينتقل الملك في الحنطة ، وأما فت الخبز لأنه لم يذهب الاسم ومعظم المنافع .

                                                                                                                عن الثامن : أنه مثل مسألة الرهن ، إن أيسر الراهن بالدين انفك ، وإلا فلا ، فكما أن الرهن ملك مع المنع فكذلك هاهنا ، ولذلك يرد عتق المدين مع ثبوت الملك .

                                                                                                                تمهيد : قال صاحب المقدمات : زيادة المغصوب إن كانت من فعل الله تعالى كالصغير يكبر ، والهزيل يسمن ، أو العيب يذهب ، فليس بفوت ؛ لأنه عين ماله [ ص: 24 ] ولم يتجدد للغاصب فيه سبب يوجب التضمين ولا التمليك ، أو أحدثها الغاصب ، فإنها تنقسم في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك قسمين : ما أحدث فيه الغاصب من ماله عيبا قائمة كالصبغ والنقض في البنيان ، أو مجرد العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة ، والذي له عين قائمة : قسمان : ما تمكن إعادته على حاله كالبقعة يبنيها ، وما لا يمكن كالثوب يصبغه والجلد يدبغه والسويق يلته ، فيخير في القسم الأول بين إلزامه بإعادة البقعة على حالها ، وإزالة ملكه ، وبين إعطائه قيمة ماله فيها مقلوعا بعد أجر القلع ، إذا كان لا يتولى ذلك بنفسه ، ولا يعيده بل يستأجر عليه ، قاله محمد وابن شعبان ، وقيل : لا يحط أجرة القلع على مذهب ابن القاسم فيالمدونة ، وقاله ابن دحون ، وعلل ذلك بأن الغاصب لو هدمه لم يكن له أخذه بالقيمة بعد الهدم ، وأما القسم الثاني : فيخير في الصبغ كما تقدم ونحوه ، إلا في السويق يلت بالسمن ونحوه من الطعام ، فلا يخير لما يدخله من الربا ، بل يلزم المثل أو القيمة فيما لا مثل له ، وأما القسم الثاني من أصل التقسيم ، وهو مجرد العمل ، فهو قسمان : يسير لا ينتقل به المغصوب عن اسمه ، كعمل الخشبة أبوابا أو تابوتا ، وطحن القمح ونسج الغزل ، وصوغ الفضة حليا أو دراهم ، فيأخذ الأول معمولا بغير شيء ، لأن اليسير مغتفر ، والثاني فوت يوجب المثل أو القيمة في غير المثل يوم الغصب ، هذا أصل ابن القاسم وأشهب : يجعل البنيان أصلا لهذا كله ، ويقول : لا أجر للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والدباغ والطحن وعمل التابوت ، وعن ابن القاسم : الصبغ تفويت وتتعين القيمة ، وكذلك شبع الصبغ ، وقيل يشتركان بقيمة الصبغ وقيمة الثوب ، إذا امتنعا من دفع ما يتوجه عليهما ، وأنكر هذا القول في المدونة : وقال : إن الشبهة إنما تكون فيما كان توجه بشبهه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية