الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : فرض مرة على الفور ) أي فرض الحج في العمر مرة واحدة في أول سني الإمكان والفور في اللغة من فور القدر غليانها وفعل ذلك من فوره أي من وجهه ذلك وهو من فور القدر قبل أن تسكن قال الله تعالى { من فورهم هذا } ولم يذكر المصنف فرضيته قصدا ; لأنها من المسائل الاعتقادية فليست من مسائل الفقه ; لأن مسائله ظنية وإنما ذكره توطئة لما بعده ودليله القرآني { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } والسنة كثيرة وأما كونه لا يتعدد فلأن سببه وهو البيت كذلك وأما تكرر وجوب الزكاة مع اتحاد المال فلأن سببه هو النامي تقديرا وتقدير النماء دائر مع حولان الحول إذا كان المال معدا للاستنماء في الزمان المستقبل وتقدير النماء الثابت في هذا الحول غير تقدير النماء في حول آخر فالمال مع هذا النماء غير المجموع منه ومن النماء الآخر فيتعدد حكما كتعدد الوجوب بتعدد النصاب ولرواية أحمد مرفوعا { الحج مرة فمن زاد فهو تطوع }

                                                                                        وأما كونه على الفور فهو قول أبي يوسف وأصح الروايتين عن أبي حنيفة وعند محمد يجب على التراخي والتعجيل أفضل كذا في الخلاصة وتحقيقه أن الأمر إنما هو طلب المأمور به ولا دلالة له على الفور ولا على التراخي فأخذ به محمد وقواه بأنه عليه السلام حج سنة عشر وفرضية الحج كانت سنة تسع فبعث أبا بكر حج بالناس فيها ولم يحج هو إلى القابلة وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فقالا الاحتياط في تعيين أول سني الإمكان ; لأن الحج له وقت معين في السنة والموت في سنة غير نادر فتأخيره بعد التمكن في وقته تعريض له على الفوات فلا يجوز وبهذا حصل الجواب عن تأخيره عليه الصلاة والسلام إذ لا يتحقق في حقه تعريض الفوات وهو الموجب للفور ; لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلا للتبليغ وبهذا التقرير علم أن الفورية ظنية ; لأن دليل الاحتياط ظني ومقتضاه الوجوب فإذا أخره وأداه بعد ذلك وقع أداء ويأثم بالتأخير لترك الواجب وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا أخره فعلى الصحيح يأثم ويصير فاسقا مردود الشهادة وعلى قول محمد لا وينبغي أن لا يصير فاسقا من أول سنة على المذهب الصحيح بل لا بد أن يتوالى عليه سنون ; لأن التأخير في هذه الحالة صغيرة ; لأنه مكروه تحريما ولا يصير فاسقا بارتكابها مرة بل لا بد من الإصرار عليها وإذا حج في آخر عمره ارتفع الإثم اتفاقا قال الشارح

                                                                                        ولو مات ولم يحج أثم بالإجماع ولا يخفى ما فيه فإن المشايخ اختلفوا على قول محمد فقيل يأثم مطلقا وقيل لا يأثم [ ص: 334 ] مطلقا وقيل إن خاف الفوات بأن ظهرت له مخائل الموت في قلبه فأخره حتى مات أثم وإن فجأه الموت لا يأثم وينبغي اعتماد القول الأول وتضعيف القول الثاني ; لأنه حينئذ يفوت القول بفرضية الحج ; لأن فائدتها الإثم عند عدم الفعل سواء كان مضيقا ، أو موسعا اللهم إلا أن يقال فائدتها على هذا القول وجوب الإيصاء عليه قبيل موته فإذا لم يوص يأثم لترك هذا الواجب لا لترك الحج وعلم من قوله فرض مرة أن ما زاد عليها فهو تطوع ويشهد له الحديث السابق وعند الشافعية أن الحج لا يوصف بالنفلية بل المرة الأولى فرض عين وما زاد ففرض كفاية ; لأن من فروض الكفاية أن يحج البيت كل عام ولم أره لأئمتنا بل صرحوا بالنفلية فقالوا حج النفل أفضل من الصدقة ولا يخفى أنه إذا نذر الحج فإنه يصير فرضا أيضا ومن فروعه ما في الخلاصة رجل قال لله علي مائة حجة لزمته كلها ، ولو قال أنا أحج لا حج عليه ، ولو قال إذا دخلت الدار فأنا أحج يلزمه عند الشرط

                                                                                        ولو قال المريض إن عافاني الله تعالى من مرضي هذا فعلي حجة فبرئ لزمته حجة وإن لم يقل علي حجة لله ; لأن الحجة لا تكون إلا لله ، ولو برأ وحج جاز عن حجة الإسلام ، ولو نوى غير حجة الإسلام صحت نيته . ا هـ .

                                                                                        وظاهره أنه ينصرف إلى حجة الإسلام من غير نيته وينبغي أن ينصرف إلى غير حجة الإسلام بغير نية إلا أن ينويها وقد صرح به الشارح الزيلعي في كتاب الأضحية لكن علل المحقق ابن الهمام لما في الخلاصة بأن الغالب أن يريد به المريض الذي فرط في الفرض حتى مرض وقد قدمنا أن الحج يتصف بالحرمة إذا كان المال حراما ويمكن أن يقال إنه يكون واجبا وهو ما إذا جاوز الميقات بغير إحرام فإنهم قالوا يجب عليه أحد النسكين إما الحج ، أو العمرة فإذا اختار الحج فإنه يتصف بالوجوب وقد قدمنا أنه يتصف بالكراهة وهو حجه بغير إذن أبويه بشرطه ، أو بغير إذن صاحب الدين فتحرر من هذا أنه يكون فرضا وواجبا ونفلا وحراما ومكروها والظاهر أنه لا يتصف بالإباحة ; لأنه عبادة وضعا .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : وهو البيت كذلك ) أي لا يتعدد ( قوله ارتفع الإثم اتفاقا ) كذا في التبيين وقال نوح أفندي الظاهر أن مراده بالإثم إثم تفويت الحج لا إثم تأخيره فإنه لا يرتفع عند أبي يوسف كما مر ويدل عليه قوله ولو مات ولم يحج أثم بالإجماع أي إثم تفويته ; لأنه بتأخيره عرضه على الفوات ا هـ .

                                                                                        وفيما استدل به نظر يدل عليه بحث المؤلف في كلام الزيلعي ونقل الأقوال الثلاثة وما ذاك إلا في التأخير إذ لا شك في إثم تارك فرض قطعي وإلا لم يكن فرضا ولا واجبا فالمراد في الموضعين إثم التأخير يدل عليه ما قال في الفتح ثم على ما أورده المصنف يأثم بالتأخير عن أول سني الإمكان فلو حج بعده ارتفع الإثم ا هـ .

                                                                                        وفي القهستاني فيأثم عند الشيخين بالتأخير إلى غيره بلا عذر إلا إذا أدى ولو في آخر عمره فإنه رافع للإثم بلا خلاف وحينئذ فهو مخالف لما نقله عن صدر الشريعة من عدم ارتفاع الإثم عند الثاني ( قوله : فقيل يأثم مطلقا ) قال في النهر لم أر عن محمد القول بالإثم مطلقا إذ بتقديره يرتفع الخلاف فالظاهر أن هذا سهو نعم المنقول عنه كما في الفتح أنه على التراخي فلا يأثم إذا حج قبل موته فإذا مات بعد الإمكان ولم يحج ظهر أنه أثم ونقل [ ص: 334 ] القولين الآخرين ثم قال وصحة الأول غنية عن الوجه وعلى اعتباره قيل يظهر الإثم من السنة الأولى وقيل من الأخيرة من سنة رأى في نفسه الضعف وقيل يأثم في الجملة غير محكوم بمعين بل علمه إلى الله تعالى ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى عليك ما فيه فإن ما ادعى عدم رؤيته نقله بيده وتلفظه بفيه وهو قول الفتح فإذا مات بعد الإمكان ولم يحج ظهر أنه أثم وهو معنى قول المؤلف يأثم مطلقا أي سواء فجأه الموت أو لا وقوله إذ بتقديره يرتفع الخلاف ممنوع فإنه على قول الإمامين يأثم بالتأخير عن أول سني الإمكان كما مر وعلى قول محمد يظهر بالموت إثمه وكلام المؤلف فيما إذا مات فالفرق واضح تدبر ( قوله : فقالوا حج النفل أفضل من الصدقة ) قال الرملي قال المرحوم الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام في مناسكه وإذا حج حجة الإسلام فصدقة التطوع بعد ذلك أفضل من حج التطوع عند محمد والحج أفضل عند أبي يوسف وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول بقول محمد فلما حج ورأى ما فيه من أنواع المشقات الموجبة لتضاعف الحسنات رجع إلى قول أبي يوسف ا هـ .

                                                                                        قلت قد يقال إن صدقة التطوع في زماننا أفضل لما يلزم الحاج غالبا من ارتكاب المحظورات ومشاهدته لفواحش المنكرات وشح عامة الناس بالصدقات وتركهم الفقراء والأيتام في حسرات ولا سيما في أيام الغلاء وضيق الأوقات وبتعدي النفع تتضاعف الحسنات ثم رأيت في متفرقات اللباب الجزم بأن الصدقة أفضل منه وقال شارحه القاري أي على ما هو المختار كما في التجنيس ومنية المفتي وغيرهما ولعل تلك الصدقة محمولة على إعطاء الفقير الموصوف بغاية الفاقة أو في حال المجاعة وإلا فالحج مشتمل على النفقة بل وزاد إن الدرهم الذي ينفق في الحج بسبعمائة إلخ قلت قد يقال ما ورد محمول على الحج الفرض على أنه لا مانع من كون الصدقة للمحتاج أعظم أجرا من سبعمائة ( قوله : ولا يخفى إلخ ) قال منلا علي في شرح المنسك المتوسط نعم قد يفرض لعارض كنذر أو قضاء بعد فساد أو إحصار أو الشروع فيه بمباشرة إحرام إلخ .




                                                                                        الخدمات العلمية