الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 472 ] ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة والبيعة لمحمد بن جعفر

وفي هذه السنة ، في المحرم ، نزع الحسين كسوة الكعبة ، وكساها كسوة أخرى ، أنفذها أبو السرايا من الكوفة ، من القز ، وتتبع ودائع بني العباس وأتباعهم وأخذها ، وأخذ أموال الناس بحجة الودائع ، فهرب الناس منه ، وتطرق أصحابه إلى قلع شبابيك الحرم ، وأخذ ما على الأساطين من الذهب ، وهو نزر حقير ، وأخذ ما في خزانة الكعبة ، فقسمه مع كسوتها على أصحابه .

فلما بلغه قتل أبي السرايا ، ورأى تغير الناس لسوء سيرته وسيرة أصحابه ، أتى هو وأصحابه إلى محمد بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي - عليه السلام - وكان شيخا محببا للناس ، مفارقا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة ، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر - رضي الله عنه - وكان الناس يكتبون عنه ، وكان يظهر زهدا ، فلما أتوه قالوا له : تعلم منزلتك من الناس ، فهلم نبايع لك بالخلافة ، فإن فعلت لم يختلف عليك رجلان .

فامتنع من ذلك ، فلم يزل به ابنه علي والحسين بن الحسن الأفطس حتى غلباه على رأيه ، وأجابهم ، وأقاموه في ربيع الأول ، فبايعوه بالخلافة ، وجمعوا له الناس ، فبايعوه طوعا وكرها ، وسموه " أمير المؤمنين " ، فبقي شهورا وليس له من الأمر شيء ، وابنه علي والحسين بن الحسن وجماعتهم أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح فعلا ، فوثب الحسين بن الحسن على امرأة من بني فهر كانت جميلة ، وأرادها على نفسها ، فامتنعت ، فأخاف زوجها ، وهو من بني مخزوم ، حتى توارى عنه ، ثم كسر باب دارها ، وأخذها إليه مدة ثم هربت منه .

ووثب علي بن محمد بن جعفر على غلام أمرد ، وهو ابن قاضي مكة ، يقال له إسحاق بن محمد ، وكان جميلا ، فأخذه قهرا . فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين اجتمعوا بالحرم ، واجتمع معهم جمع كثير ، فأتو محمد بن جعفر ، فقالوا له : لنخلعنك ، أو لنقتلنك ، أو لتردن إلينا هذا الغلام ! فأغلق بابه وكلمهم من شباك ، وطلب منهم الأمان ليركب إلى ابنه ويأخذ الغلام ، وحلف لهم أنه لم يعلم بذلك ، فأمنوه ، [ ص: 473 ] فركب ( إلى ابنه ) وأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله .

ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى قدم إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فنزل المشاش ، واجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفر وأعلموه ، وحفروا خندقا ، وجمعوا الناس من الأعراب وغيرهم ، فقاتلهم إسحاق ، ثم كره القتال ، فسار نحو العراق ، فلقيه الجند الذين أنفذهم هرثمة إلى مكة ، ومعهم الجلودي ورجاء بن جميل ، فقالوا لإسحاق : ارجع معنا ، ونحن نكفيك القتال . فرجع معهم ، فقاتلوا الطالبيين فهزموهم ، فأرسل محمد بن جعفر يطلب الأمان ، فأمنوه ، ودخل العباسيون مكة في جمادى الآخرة وتفرق الطالبيون من مكة .

وأما محمد بن جعفر فسار نحو الجحفة ، فأدركه بعض موالي بني العباس ، فأخذ جميع ما معه ، وأعطاه دريهمات يتوصل بها ، فسار نحو بلاد جهينة ، فجمع بها ، وقاتل هارون بن المسيب والي المدينة ، عند الشجرة وغيرها ، عدة دفعات ، فانهزم محمد ، وفقئت عينه بنشابة ، وقتل من أصحابه بشر كثير ، ورجع إلى موضعه .

فلما انقضى الموسم طلب الأمان من الجلودي ، ومن رجاء بن جميل ، وهو ابن عم الفضل بن سهل ، فأمنه ، وضمن له رجاء عن المأمون وعن الفضل الوفاء بالأمان ، فقبل ذلك ، فأتى مكة لعشر بقين من ذي الحجة ، فخطب الناس وقال : إنني بلغني أن المأمون مات ، وكانت له في عنقي بيعة ، وكانت فتنة عمت الأرض ، فبايعني الناس ، ثم إنه صح عندي أن المأمون حي صحيح ، وأنا أستغفر الله من البيعة ، وقد خلعت نفسي من البيعة التي بايعتموني عليها ، كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي ، فلا بيعة لي في رقابكم .

[ ص: 474 ] ثم نزل وسار سنة إحدى ومائتين إلى العراق ، فسيره الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو ، فلما سار المأمون إلى العراق صحبه ، فمات بجرجان ، على ما نذكره إن شاء الله - تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية