الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3932 ] (95) سورة التين مكية

                                                                                                                                                                                                                                      وآياتها ثمان

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الأمين (3) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (6) فما يكذبك بعد بالدين (7) أليس الله بأحكم الحاكمين (8)

                                                                                                                                                                                                                                      الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها. وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقسم الله - سبحانه - على هذه الحقيقة بالتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين، وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء - هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة. وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقا دقيقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وطور سينين هو الطور الذي نودي موسى - عليه السلام - من جانبه. والبلد الأمين هو مكة بيت الله الحرام..

                                                                                                                                                                                                                                      وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة.. فأما التين والزيتون فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كثرت الأقوال المأثورة في التين والزيتون.. قيل: إن التين إشارة إلى طورتينا بجوار دمشق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو إشارة إلى شجرة التين التي راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة التي كانا فيها قبل هبوطهما إلى هذه الحياة الدنيا. وقيل: هو منبت التين في الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح - عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل في الزيتون: إنه إشارة إلى طورزيتا في بيت المقدس. وقيل: هو إشارة إلى بيت المقدس نفسه. وقيل: هو إشارة إلى غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التي أطلقها نوح عليه السلام - من السفينة - لترتاد حالة الطوفان. فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت وأنبتت!

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: بل التين والزيتون هما هذان الأكلان اللذان نعرفهما بحقيقتهما. وليس هناك رمز لشيء وراءهما.. [ ص: 3933 ] أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض ...

                                                                                                                                                                                                                                      وشجرة الزيتون أشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور: فقال: وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين .. كما ورد ذكر الزيتون: وزيتونا ونخلا .. فأما "التين" فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر. وكل ما نملك أن نقوله - اعتمادا على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية - : إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان. أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم (وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته) .. كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله. على طريقة القرآن ...

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الحقيقة الداخلية في السورة فهي هذه: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم. والله - سبحانه - أحسن كل شيء خلقه.

                                                                                                                                                                                                                                      فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب، وحسن التقويم، وحسن التعديل.. فيه فضل عناية بهذا المخلوق.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق - على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد - لتشير إلى أن له شأنا عند الله، ووزنا في نظام هذا الوجود. وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد، أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الروحي العجيب.

                                                                                                                                                                                                                                      والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية. فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها. إذ إنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني. فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين. كما تشهد بذلك قصة المعراج.. حيث وقف جبريل - عليه السلام - عند مقام، وارتفع محمد بن عبد الله - الإنسان - إلى المقام الأسنى.

                                                                                                                                                                                                                                      بينما هذا الإنسان مهيأ - حين ينتكس - لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط: ثم رددناه أسفل سافلين .. حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم، لاستقامتها على فطرتها، وإلهامها تسبيح ربها، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى. بينما هو المخلوق في أحسن تقويم، يجحد ربه، ويرتكس مع هواه، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .. فطرة واستعدادا.. ثم رددناه أسفل سافلين .. حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه، وبينه له، وتركه ليختار أحد النجدين.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال. فلهم أجر غير ممنون دائم غير مقطوع.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3934 ] فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين، فيظلون ينحدرون بها في المنحدر، حتى تستقر في الدرك الأسفل. هناك في جهنم، حيث تهدر آدميتهم، ويتمحضون للسفول!

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء.. إما استقامة على الفطرة القويمة، وتكميل لها بالإيمان، ورفع لها بالعمل الصالح.. فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم.. وإما انحراف عن الفطرة القويمة، واندفاع مع النكسة، وانقطاع عن النفخة الإلهية.. فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان.. إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها. إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها. إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين.

                                                                                                                                                                                                                                      وحين ينقطع هذا الحبل، وحين ينطفئ هذا النور، فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين، والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية، حين يتمحض الطين في الكائن البشري، فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظل هذه الحقيقة ينادى "الإنسان":

                                                                                                                                                                                                                                      فما يكذبك بعد بالدين؟ أليس الله بأحكم الحاكمين؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      فما يكذبك بالدين بعد هذه الحقيقة؟ وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية؟ وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون، ولا يهتدون بهذا النور، ولا يمسكون بحبل الله المتين؟

                                                                                                                                                                                                                                      أليس الله بأحكم الحاكمين؟ .. أليس الله بأعدل العادلين حين يحكم في أمر الخلق على هذا النحو؟ أو أليست حكمة الله بالغة في هذا الحكم على المؤمنين وغير المؤمنين؟

                                                                                                                                                                                                                                      والعدل واضح. والحكمة بارزة.. ومن ثم ورد في الحديث المرفوع عن أبي هريرة: " فإذا قرأ أحدكم والتين والزيتون فأتى آخرها: أليس الله بأحكم الحاكمين؟ .. فليقل.. بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية