الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          المنافق دائما حذر من أن ينكشف أمره، وقد رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحي ويخبره بكشف أمر المنافقين، فكانوا يخشون إذا نزلت سورة أن يكون فيها كشف لأمر من أمورهم، فقال تعالى: يحذر المنافقون أن تنـزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون .

                                                          [ ص: 3357 ] يحذر المنافقون إخبار عن المنافقين بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة، والحذر يكون دائما من شأن من يستر شيئا; لأنه يخشى أن يكشف، وإذا كشف ضاع الغرض الذي ستره من أجله، والسورة الجزء من القرآن المفصول عن غيره، كأنه سور بسور يحده، والتنزيل من الله تعالى على نبيه الكريم، فلا تنزل على المنافقين، إنما تنزل على قلب محمد الأمين، فكيف تنزل عليهم؟! ولكن المراد أنها تنزل في شأنهم، وكانت التعدية بـ(على) للإشارة إلى أنها تنزل عليهم كالصاعقة يفاجئون بها، وعلى ذلك يكون الضمير في (عليهم) يعود إلى المنافقين، وكذلك الضمير في (تنبئهم) وقوله تعالى: بما في قلوبهم ويصح أن يكون قوله تعالى: يحذر المنافقون في معنى الأمر، وكثيرا ما تجيء الصيغة الخبرية بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين وكما في قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فإن الخبر في كل هذه الصيغ يدل على الطلب.

                                                          ولكن تخريجها بمعنى الخبر أولى; لأنه يناسبه قوله تعالى في الآية: إن الله مخرج ما تحذرون

                                                          والزمخشري يرى أن الضمير في (عليهم) و(تنبئهم) يعود على المؤمنين، والنبي - صلى الله عليه وسلم -لأن الشأن في النزول القرآني أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين، وأما الضمير في قوله تعالى: (بما في قلوبهم) فإنه يعود على المنافقين; لأنهم الذين يخفون ما لا يبدون، فالأنسب أن يعود إليهم، والقرائن تعين عودة الضمائر على هذا النحو.

                                                          كان المنافقون يستهزئون في مجالسهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالمسلمين وبالجهاد، حتى أنهم كانوا في غزوة تبوك التي كانت ذاهبة إلى الشام يتهكمون على المؤمنين، ويستهزئون بهم، ولا يكتفون بالقعود عنهم، ولقد روي أنهم كانوا يقولون مستهزئين: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات.

                                                          وكانوا يريدون ألا يطلع على ذلك أحد من المؤمنين، ولذا قال تعالى: [ ص: 3358 ] قل استهزئوا هذا أمر للتهديد، كقولك للمجرم الذي بدا إجرامه: افعل ما شئت، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ".

                                                          إن الله مخرج ما تحذرون أي: إن الله تعالى كاشف ما تأتمرون به، وما تستهزئون به من قول يكشف عن نفاقكم، وفي قوله تعالى: إن الله مخرج ما تحذرون أي أن يخرج، تأكيد لإخراج هذا الأمر الذي يحذرون خروجه أولا بالجملة الاسمية، و(إن) الدالة على توكيد الخبر، وفي التعبير بلفظ الجلالة الذي يربي الرهبة والخوف في النفس، وقوله (مخرج) فيه إشارة إلى مبالغتهم في الحذر، كأنهم دفنوه فأخرج من دفين نفوسهم.

                                                          ولقد جاء في تفسير أبي مسلم أن قوله تعالى: يحذر المنافقون من قبيل تهكمهم على القرآن، فقال: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر كلامهم ويدعي أنه من الوحي، وكان المنافقون يكذبون ذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا إظهاره، ولذلك قال تعالى: قل استهزئوا أي بالله وآياته ورسوله، أو افعلوا الاستهزاء، وهو أمر تهديد إن الله مخرج ما تحذرون أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه.

                                                          ويقول: إن هذا احتمال، ولكن السياق القرآني يدل على استهزاء أظهره الله تعالى، وإن هذه الآية تدل على أنهم يكثرون من الاستهزاء، والله مخرج أمورهم، حتى لا يخدع فيهم مؤمن، قال تعالى: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية