الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل السابع : حالته في أخبار الدنيا - صلى الله عليه وسلم -

          هذا القول فيما طريقه البلاغ ، وأما ما ليس سبيله من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ، ولا أخبار المعاد ، ولا تضاف إلى وحي ، بل في أمور الدنيا ، وأحوال نفسه فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره ، لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا ، وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه ، وفي سخطه ، وجده ، ومزحه ، وصحته ، ومرضه .

          ودليل ذلك اتفاق السلف ، وإجماعهم عليه ، وذلك أنا نعلم من دين الصحابة ، وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله ، والثقة بجميع أخباره في أي باب كانت ، وعن أي شيء وقعت ، وأنه لم يكن لهم توقف ، ولا تردد في شيء منها ، ولا استثبات عن حاله عند ذلك ، هل وقع فيها سهو أم لا ؟

          ولما احتج ابن أبي الحقيق اليهودي على عمر حين أجلاهم من خيبر بإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واحتج عليه عمر - رضي الله عنه - بقوله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 484 ] كيف بك إذا أخرجت من خيبر ؟ فقال اليهودي : كانت هزيلة من أبي القاسم . فقال له عمر : كذبت يا عدو الله .

          وأيضا فإن أخباره ، وآثاره ، وسيره ، وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها ، ولم يرد في شيء منها استدراكه - صلى الله عليه وسلم - لغلط في قول قاله ، أو اعترافه بوهم في شيء أخبر به ، ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته - عليه السلام - في رجوعه - صلى الله عليه وسلم - عما أشار به على الأنصار في تلقيح النخل ، وكان ذلك رأيا لا خبرا ، وغير ذلك من الأمور التي ليست من هذا الباب ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : والله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي حلفت عليه ، وكفرت عن يميني .

          وقوله : إنكم تختصمون إلي . . . الحديث .

          وقوله : اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر كما سنبين كل ما في هذا من مشكل ما في هذا الباب ، والذي بعده إن شاء الله ، مع أشباههما .

          وأيضا فإن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار بخلاف ما هو على أي وجه كان استريب بخبره ، واتهم في حديثه ، ولم يقع قوله في النفوس موقعا ، ولهذا ترك المحدثون ، والعلماء الحديث عمن عرف بالوهم ، والغفلة ، وسوء الحفظ ، وكثرة الغلط للمروءة ، مع ثقته .

          وأيضا فإن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية ، والإكثار منه كبيرة بإجماع ، مسقط للمروءة .

          وكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة ، والمرة الواحدة منه فيما يستبشع ، ويستشنع ، ويشيع مما يخل بصاحبها ، ويزري بقائلها لاحقة بذلك .

          وأما فيما لا يقع هذا الموقع فإن عددناها من الصغائر فهل تجري على حكمها في الخلاف فيها ؟ مختلف فيه . والصواب تنزيه النبوة عن قليله وكثيره ، سهوه وعمده ، إذ عمدة النبوة البلاغ ، والإعلام ، والتبيين ، وتصديق ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتجويز شيء من هذا قادح في ذلك ، ومشكك فيه ، مناقض للمعجزة ، فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه ، لا بقصد ، ولا بغير قصد ، ولا تتسامح مع من سامح في تجويز ذلك عليهم حال السهو مما ليس طريقه البلاغ ، نعم ، وبأنه لا يجوز عليهم الكذب قبل النبوة ، ولا الاتسام به في أمورهم ، وأحوال دنياهم ، لأن ذلك كان يزري ، ويريب ، وينفر القلوب عن تصديقهم بعد .

          وانظر أحوال أهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قريش ، وغيرها من الأمم ، وسؤالهم عن حاله في صدق لسانه وما عرفوا به من ذلك ، واعترفوا به مما عرف ، واتفق النقل على عصمة نبينا - صلى الله عليه وسلم - منه قبل وبعد ، وقد ذكرنا من الآثار فيه في الباب الثاني أول الكتاب ما يبين لك صحة ما أشرنا إليه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية