الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1317 [ 666 ] وعن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تعاهدوا هذا القرآن ، فوالذي نفس محمد بيده ! لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها .

                                                                                              رواه أحمد (4 \ 397)، والبخاري (5033)، ومسلم (791) .

                                                                                              [ ص: 417 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 417 ] (112) ومن باب : الأمر بتعاهد القرآن

                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم - : بئسما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت : بئسما هي بئس التي للذم أخت نعم التي هي للمدح ، وهما فعلان غير منصرفين يرفعان الفاعل ظاهرا ، أو مضمرا ; إلا أنه إن كان ظاهرا لم تكن في الأمر العام إلا بالألف واللام للجنس ، أو مضافا إلى ما هما فيه حتى يشتمل على الممدوح بهما والمذموم ، ولا بد من ذكر الممدوح والمذموم تعيينا ; كقولك : نعم الرجل زيد ، وبئس الرجل عمرو . فإن كان فاعلهما مضمرا ، فلا بد من ذكر اسم نكرة ، ينصب على التمييز لذلك المضمر ، كقولك : نعم رجلا زيد . وقد يكون هذا التفسير : ما ، [ ص: 418 ] كما في الحديث ، وكما في قوله تعالى : فنعما هي [ البقرة : 271 ] وقد يجمع بين الفاعل الظاهر وبين المفسر ; فيقال :

                                                                                              تزود مثل زاد أبيك [ فينا فنعم الزاد زاد أبيك ] زادا



                                                                                              والاسم الممدوح أو المذموم مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة المتقدمة ، من نعم وفاعلها ، وقيل : على الخبر ، وإضمار المبتدأ . واختلف العلماء في متعلق هذا الذم ، فقال بعضهم : هو على نسبة الإنسان لنفسه النسيان ; إذ لا صنع له فيه ، فالذي ينبغي له أن يقول : أنسيت ، مبنيا لما لم يسم فاعله ، وهذا ليس بشيء ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد نسب النسيان لنفسه ، وقد نسبه الله إليه ، في قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله [ الأعلى : 6 - 7 ] وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني . وقيل : كان هذا الذم خاصا بزمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه كان من ضروب النسخ نسيان الآية ، كما قال تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله [ الأعلى : 6 - 7 ] ; أن ينسيكه ; كما قرأت الجماعة : ما ننسخ من آية أو ننسها [ البقرة :106 ] بضم النون ، وترك الهمز ; أي : ننسكها ، فلما كان هذا ; فكأنه نهى عن ذلك القول ; لئلا يتوهم في كثير من محكم القرآن ، أنه قد ضاع بكثرة الناسين ، وفيه بعد . وقيل قول ثالث ; وهو أولاها : إن نسيان القرآن إنما يكون لترك تعاهده ، وللغفلة عنه ، كما أن حفظه إنما يثبت بتكراره ، والصلاة به ; كما قال في حديث ابن عمر : إذا قام صاحب القرآن يقرؤه بالليل والنهار ذكره ، وإن لم [ ص: 419 ] يقم به نسيه . فإذا قال الإنسان : نسيت آية كيت فقد شهد على نفسه بالتفريط وترك معاهدته له ، وهو ذنب عظيم ; كما قال في حديث أنس الذي خرجه الترمذي مرفوعا : عرضت علي أعمال أمتي ، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن ، أو آية أوتيها رجل ثم نسيها . وهو نص ، وعلى هذا فمتعلق الذم ترك ما أمر به من استذكار القرآن وتعاهده ، والنسيان علامة ترك ذلك ، فعلق الذم عليه . ولا يقال : حفظ جميع القرآن ليس واجبا على الأعيان ، فكيف يذم من تغافل عن حفظه ؟! لأنا نقول : من جمع القرآن فقد علت رتبته ومرتبته ، وشرف في نفسه وقومه شرفا عظيما ، وكيف لا يكون ذلك ، ومن حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه ؟! وقد صار ممن يقال فيه : هو من أهل الله وخاصته ، وإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية ، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره ، كما قال تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ الأحزاب : 30 ] ; لا سيما إذا كان ذلك الذنب مما يحبط تلك المنزلة ويسقطها ; كترك معاهدة القرآن المؤدي به إلى الرجوع إلى الجهالة . ويدل على صحة هذا التأويل : قوله في آخر الحديث : بل هو نسي . وهذا اللفظ رويناه مشددا مبنيا لما لم يسم فاعله ، وقد سمعناه من بعض من لقيناه بالتخفيف ، وبه ضبط عن أبي بحر ، والتشديد لغيره ، ولكل منهما وجه صحيح . فعلى التشديد يكون معناه : أنه عوقب بتكثير النسيان عليه ; لما تمادى في التفريط . وعلى التخفيف فيكون معناه : تركه غير ملتفت إليه ، ولا معتنى به ، ولا مرحوم ; كما قال الله تعالى : نسوا الله فنسيهم [ التوبة :67 ] ; أي : تركهم في العذاب ، أو تركهم من الرحمة .

                                                                                              [ ص: 420 ] وقوله : كيت وكيت : كلمة يعبر بها عن الجمل الكثيرة ، والحديث من الأمر الطويل ، ومثلها : ذيت وذيت . قال ثعلب : كان من الأمر كيت وكيت ، وكان من فلان ذيت وذيت ، فكيت : كناية عن الأفعال ، وذيت : إخبار عن الأسماء . والتفصي : التفلت والانفصال ، يقال : تفصى فلان عن كذا ; أي : انفصل عنه . والنعم : الإبل ، ولا واحد له من لفظه . والعقل : جمع عقال ، وهو ما تعقل به الناقة .

                                                                                              وقوله : " من عقله " من : على أصل ما يقتضيه اللفظ من أصل التعدي ، فأما رواية من رواه : بعقلها ، وفي عقلها ; ومن عقلها فعلى أن تكون الباء والفاء بمعنى : من ، أو يكون معناهما : المصاحبة والظرفية ، ويعني به : تشبيه من يتفلت منه بعض القرآن بالناقة التي انفلتت من عقالها ، وبقي متعلقا بها . والله أعلم .

                                                                                              وصاحب القرآن : هو الحافظ له ، المشتغل به ، الملازم لتلاوته ، ولفظ الصحبة مستعمل في أصل اللغة على إلف الشيء وملازمته ، ومنه : أصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .




                                                                                              الخدمات العلمية