الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                          صفحة جزء
                                                                          باب ما يلزم الإمام أو أميره عند مسيره إلى الغزو ، وفي دار الحرب ( و ) ما يلزم ( الجيش ) إذن ( يلزم كل أحد ) من إمام ورعيته ( إخلاص النية لله تعالى في الطاعات ) كلها من جهاد وغيره . لقوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ( و ) يلزم كل أحد ( أن يجتهد ) أي يبذل وسعه ( في ذلك ) أي في إخلاص النية لله في الطاعات ; لأن الواجب لا يتم إلا به .

                                                                          ( و ) يجب ( على إمام عند المسير ) بالجيش ( تعاهد الرجال والخيل ) أي رجال الجيش وخيلهم ; لأنه من مصالح الغزو ( و ) عليه ( منع ما لا يصلح لحرب ) من رجال وخيل . كضعيف وزمن وأعمى وفرس حطيم ، وهو الكسير ، وفخم وهو الكبير ، وضرع وهو الصغير والهزيل .

                                                                          ( و ) عليه منع ( مخذل ) أي مفند للناس عن الغزو ومزهدهم في القتال والخروج إليه . كقائل : الحر أو البرد الشديد ، أو المشقة شديدة ، أو لا تؤمن هزيمة الجيش ( و ) عليه منع ( مرجف ) كمن يقول : هلكت سرية المسلمين ، ولا لهم مدد ، أو طاقة بالكفار ونحوه ( و ) عليه منع ( مكاتب ) كفار ( بأخبارنا ) ليدل العدو على عوراتنا ( و ) عليه منع ( معروف بنفاق وزندقة ) لقوله تعالى : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } [ ص: 631 ]

                                                                          ( و ) عليه منع ( رام بيننا ) أي المسلمين ( بفتن ) لقوله تعالى { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } الآية ( و ) عليه منع ( صبي ) ولو مميزا أو مجنونا ; لأن في دخولهما أرض العدو تعرضا للهلاك من غير فائدة ( و ) عليه منع ( نساء ) لأنهن لسن من أهل القتال ولا يؤمن ظفر العدو بهن ، فيستحلون ما حرم الله منهن ( إلا عجوزا لسقي ) ماء ( ونحوه ) كمعالجة جرحى . لحديث أنس { كان صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار ، يسقين الماء ويعالجن ويداوين الجرحى } قال الترمذي : حسن صحيح قال جمع : وامرأة الأمير لحاجته إليها لفعله

                                                                          صلى الله عليه وسلم ( وتحرم استعانة بكافر في غزو إلا لضرورة ) لحديث عائشة متفق عليه وفيه { فارجع فلن نستعين بمشرك } .

                                                                          وعن الزهري { أنه صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم } رواه سعيد . فحمل الثاني ونحوه على الضرورة ، جمعا بين الأخبار . وحيث جاز فشرطه أن يكون حسن الرأي في المسلمين مأمونا ( و ) يحرم استعانة ( بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين ) من غزو وعمالة ، أو كتابة أو غيرها لعظم الضرر ، لأنهم دعاة يدعون إلى عقائدهم . واليهود والنصارى لا يدعون إلى أديانهم نصا . وتكره الاستعانة بذمي في ذلك ، وتحرم توليتهم الولايات .

                                                                          ( و ) تحرم ( إعانتهم ) أي أهل الأهواء على عدوهم ( إلا خوفا ) من شرهم . ويسن أن يخرج يوم الخميس . لحديث كعب بن مالك قال : { ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس } ( ويسير بالجيش برفق ) كسير أضعفهم لحديث { أمير القوم أقطعهم } أي أقلهم سيرا لئلا ينقطع أحد منهم ( إلا لأمر يحدث ) فيجوز ; لأنه صلى الله عليه وسلم { جد بهم في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي : ليخرجن الأعز منها الأذل } لتشتغل الناس عن الخوض فيه ( ويعد لهم ) أي للجيش ( الزاد ) لأنه به قوامهم ( ويحدثهم بأسباب النصر ) فيقول : أنتم أكثر عددا وأشد أبدانا ، وأقوى قلوبا ونحوه ; لأنه إعانة للنفوس على المصابرة ، وأبعث لها على القتال ( ويعرف عليهم العرفاء ) فيجعل لكل جماعة من يكون كمقدم عليهم ، ينظر في حالهم ويتفقدهم ; لأنه صلى الله عليه وسلم { عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا } وورد " العرافة حق " لأن فيها مصلحة .

                                                                          ( ويعقد لهم الألوية . وهي العصابة تعقد على قناة ونحوها ) قال في المطالع : اللواء راية لا يحملها إلا صاحب [ ص: 632 ] جيش العرب ، أو صاحب دعوة الجيش ( و ) يعقد لهم ( الرايات وهي أعلام مربعة ) ويجعل لكل طائفة راية . روى ابن عباس { أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله تعالى فيراها قال : فحبسته حيث أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها } ، ويستحب في الألوية أن تكون بيضاء ; لأن الملائكة إذا نزلت بالنصر نزلت مسومة بها . نقله حنبل . وينبغي أن يغاير بين ألوانها ; ليعرف كل قوم رايتهم ( ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به عند الحرب ) لئلا يقع بعضهم على بعض . قال سلمة : { غزونا مع أبي بكر زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان شعارنا أمت أمت . } رواه الإمام أحمد .

                                                                          وورد أيضا " حم لا ينصرون " ( ويتخير ) لجيشه ( المنازل ) فينزلهم في أصلحها ( ويحفظ مكامنها ) جمع مكمن ، أي موضع يختفي فيه العدو . وليهجم على عدوه على غفلة لئلا يؤتوا منها ، ( ويتعرف حال العدو ببعث العيون ) إليه ، حتى لا يختفي عليه أمره ، فيتحرز منه ويتمكن من الفرصة فيه ( ويمنع جيشه من محرم ) من إفساد ومعاص ; لأنها أسباب الخذلان ( و ) يمنعهم من ( تشاغل بتجارة ) تمنعهم الجهاد ( ويعد الصابر في القتال بأجر ونفل ) ترغيبا له فيه ، ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه ، لئلا يعلم عدوه به " وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها " ( ويشاور ذا رأي ) لقوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه . ويستحب للأمير حمل من أصيب فرسه من الجيش ، ولا يجب نصا . فإن خاف تلفه فقال القاضي : يجب عليه بذل فضل مركوبه لينجي به صاحبه .

                                                                          ( ويصفهم ) أي الجيش فيتراصون لقوله تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } ولأن فيه ربط الجيش بعضه ببعض ( ويجعل في كل جنبة ) من الصف ( كفؤا ) لحديث أبي هريرة قال : { كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خالدا إحدى الجنبتين ، والزبير على الأخرى ، وأبا عبيدة على الساقة } ولأنه أحوط للحر وأبلغ في إرهاب العدو ، ويدعو بما في حديث أنس { كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال : اللهم إنه عضدي ونصيري ، بك أحول وبك أصول ، وبك أقاتل } رواه أبو داود وغيره قال في الفروع : وكان غير واحد منهم شيخنا يقول هذا عند قصد مجلس علم ( ولا يميل ) إمام أمير ( مع قريبه ، و ) لا مع ( ذي مذهبه ) لأنه يفسد القلوب ويكسرها ويشتت [ ص: 633 ] الكلمة فربما خذلوه عند الحاجة إليهم . ويحرم قتال من لم تبلغه الدعوة قبلها .

                                                                          وتسن دعوة من بلغته للخبر ( ويجوز أن يجعل ) أمير جعلا ( معلوما ) من مال المسلمين ويجوز ) أن يجعل ( من مال الكفار مجهولا لمن يعمل ما ) أي شيئا ( فيه غناء ) أي نفع للمسلمين ، كنقب سور أو صعود حصن ( أو يدل على طريق ) سهل ( أو على قلعة ) لتفتح ( أو ) على ( ماء ) في مفازة ( ونحوه ) كدلالة على مال يأخذه المسلمون ، أو عدو يغيرون عليه أو ثغرة يدخل منها إليه ; لأنه صلى الله عليه وسلم { قد استأجر هو وأبو بكر في الهجرة من دلهم على طريق وجعل صلى الله عليه وسلم للسرية الثلث والربع مما غنموه } وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهول ويستحقه مجهول له بفعل ما جوعل عليه ( بشرط أن يجاوز ) جعل مجهول من مال كفار ( ثلث الغنيمة بعد الخمس ) لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم جعل أكثر منه .

                                                                          ( و ) يجوز أن يعطي ) الأمير ( ذلك بلا شرط ) لمن فعل ما فيه مصلحة للمسلمين ; لأنه ترغيب للجهاد .

                                                                          ( ولو جعل الأمير له ) أي لمن يفعل ما فيه مصلحة المسلمين ( جارية ) معينة على فتح الحصن ( منهم ) أي من الكفار بالحصن ( فماتت ) قبل فتح الحصن ( فلا شيء له ) لأن حقه تعلق بعينها . وقد تلفت بغير تفريط . فسقط حقه منها كالوديعة ( وإن أسلمت ) الجارية التي جعلت له منهم ( وهي أمة أخذها ) لأنه أمكن الوفاء له بشرطه فوجب ، وسواء أسلمت قبل الفتح أو بعده ( كحرة ) جعلت له ف ( أسلمت بعد فتح ) لاسترقاقها بالاستيلاء فلم تسلم إلا وهي أمة . وكذا حكم رجل من الحصن جوعل عليه ( إلا أن يكون ) المجعول له الجارية ( كافرا ف ) له ( قيمتها ) إن أسلمت لتعذر تسليمها إليه لإسلامها ( كحرة ) جعلت له و ( أسلمت قبل فتح ) لعصمتها نفسها بإسلامها إذن . وإنما لم تجب له القيمة إذا ماتت وتجب إذا أسلمت لإمكان تسليمها مع الإسلام لكن منع منه الشرع ، بخلاف موتها .

                                                                          ( وإن فتحت ) قلعة جوعل منها بجارية منهم ( صلحا ولم يشترطوها ) أي يشترط المسلمون الجارية على أهل القلعة ( وأبوها ) أي أبى أهل القلعة الجارية ( وأبى ) مجعول له ( أخذ القيمة ) عنها ( فسخ ) الصلح لتعذر إمضائه ، لسبق حق صاحب الجعل وتعذر الجمع بينه وبين الصلح . ولأهل القلعة تحصينها كما كانت بلا زيادة وإن بذلوها مجانا لزم أخذها ودفعها إليه . قال في الفروع : والمراد غير حرة الأصل وقيمتها ( ولأمير في بداءة ) [ ص: 634 ] دخوله دار حرب ( أن ينفل ) أي يزيد على السهم المستحق ( الربع فأقل بعد الخمس . و ) له أن ( ينفل في رجعة ) أي رجوع من دار حرب ( الثلث فأقل بعده ) أي الخمس .

                                                                          ( و ) بيان ( ذلك : أنه إذا دخل ) أمير دار حرب ( بعث سرية تغير ) على العدو ( وإذا رجع ) منها ( بعث ) سرية ( أخرى ) تغير ( فما أتت ) كل سرية ( أخرج خمسه وأعطى السرية ما وجب لها بجعله وقسم الباقي ) بعد الخمس والجعل ( في الكل ) أي الجيش وسراياه . لحديث حبيب بن مسلمة الفهري قال : { شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة } وفي لفظ { كان ينفل الربع بعد الخمس إذا قفل } رواهما أبو داود وللترمذي معناه عن عبادة بن الصامت مرفوعا وقال حسن غريب . وزيد في الرجعة على البداءة لمشقتها ; لأن الجيش في البداءة ردء عن السرية وفي الرجعة منصرف عنها . والعدو مستيقظ ، ولأنهم مشتاقون إلى أهليهم فيكون أكثر مشقة . ولا يعدل شيء عند أحمد الخروج في السرية مع غلبة السلامة ، لأنه أنكى للعدو .

                                                                          التالي السابق


                                                                          الخدمات العلمية