الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          110 - فصل

                          [ الكفار ممنوعون من الاستيلاء على أملاك المسلمين ]

                          وحقيقة الأمر أن الكفار ممنوعون من الاستيلاء على ما ثبت للمسلمين فيه حق من عقار أو رقيق أو زوجة مسلمة أو إحياء موات أو تملك بشفعة من مسلم ; لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا ، وإنما أقروا بالجزية للضرورة العارضة ، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها ، ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم ، وأخذ بذلك الإمام أحمد وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة ; لأن الشقص يملكه [ ص: 587 ] المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم ، وهذا خلاف الأصول .

                          والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر ، بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم ، كإجابة الدعوة وعيادة المريض ، وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته .

                          قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة ؟ قال : لا ، قلت : المجوسي ؟ قال : ذاك أشد .

                          [ ص: 588 ] وقال حرب : سألت أحمد قلت : أهل الذمة لهم شفعة ؟ قال : لا .

                          وقال أبو داود : سمعت أبا عبد الله يسأل : للذمي شفعة ؟ قال : لا .

                          وذلك نقل أبو طالب وصالح وأبو الحارث والأثرم ، كلهم عنه : ليس للذمي شفعة .

                          زاد أبو الحارث : مع المسلم .

                          قال الأثرم : قيل له : لم ؟ قال : لأنه ليس له مثل حق المسلم واحتج فيه .

                          قال الأثرم : ثنا [ ابن ] الطباع ، ثنا هشيم ، أخبرنا الشيباني عن الشعبي أنه كان يقول : ليس لذمي شفعة .

                          [ ص: 589 ] وقال سفيان عن حميد عن أبيه : إنما الشفعة لمسلم ، ولا شفعة لذمي .

                          [ ص: 590 ] وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن ليث عن مجاهد أنه قال : ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة .

                          وقال الخلال : أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال : سئل أبو عبد الله ، وأنا أسمع عن الشفعة للذمي ، قال : ليس للذمي شفعة ، ليس له [ ص: 591 ] حق المسلم .

                          أخبرني عصمة بن عصام ، حدثنا حنبل قال : سمعت أبا عبد الله قال : ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة ، إنما ذلك للمسلمين بينهم .

                          وقال في رواية إسحاق بن منصور : ليس لليهودي والنصراني شفعة ، قيل : ولم ؟ قال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " .

                          وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي .

                          واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج :

                          [ ص: 592 ] إحداها : أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض ، فلا حق للذمي فيها ، ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك .

                          الحجة الثانية : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " وتقرير الاستدلال من هذا أنه لم يجعل له حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين ، فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا ؟ بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر ، لنفي ضرر الشركة عنه ، وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا .

                          الدليل الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " ، ووجه الاستدلال من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بإخراجهم من أرضهم ونقلها إلى المسلمين ، لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ، فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها ؟

                          وأيضا ، فالشفعة حق يختص بالعقار ، فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان ، يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به ، فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم به قهرا ، وهو ممنوع [ ص: 593 ] من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم ؟ فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا ؟

                          وأيضا ، فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع ، وإن كان فيها ضرر بالمشتري فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق للذمي على حق المسلم ، وهذا ممتنع .

                          وأيضا ، فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارا بالدين ، وتملك دار المسلمين منهم قهرا ، وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه ، وهذا خلاف قواعد الشرع .

                          ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن ، ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين ولا حد القذف ، ولا يمكنون من تملك رقيق مسلم ، وقد قال تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا ، وقد قال تعالى : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، وهذا يقتضي مطلق المساواة بين المسلم والكافر ، لا نفي المساواة المطلقة ، فإنها منتفية عن كل شيئين وإن تماثلا ، وبهذه الآية احتج من نفى القصاص بينهم وبين المسلمين .

                          وأيضا ، فالذمي تبع لنا في الدار ، وليس بأصل من أهل الدار ، ولهذا عند الشافعي يؤدي الجزية أجرة لمكان السكنى والتبسط في دار الإسلام ، [ ص: 594 ] ولهذا متى نقض العهد ألحق بمأمنه ، وأخرج من دارنا وألحق بداره ، فهو في دار الإسلام أجري مجرى الساكن المنتفع ، لا مجرى الساكن الحقيقي ، وحق السكنى لا يقوى على انتزاع الشقص من يد مالكه ، وقد قال تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود : " اعلموا أن الأرض لله ورسوله " ، فعباده الصالحون هم وارثوها ، وهم الملاك لها على الحقيقة ، والكفار فيها تبع ينتفعون بها لضرورة إبقائهم بالجزية ، فلا يساوون المالكين حقيقة ، ولهذا منعهم كثير من الأئمة من شراء الأرض العشرية ، لما في ذلك من إسقاط حق المسلم من العشر الذي يجب فكيف يسلطون على انتزاع نفس أرض المسلم وعقاره منه قهرا ؟

                          وأيضا ، فلو كانوا مالكين حقيقة لما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم من جزيرة العرب وقال : " لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له ، فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا .

                          [ ص: 595 ] ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة لهم على مسلم ، وهذا من ألطف ما يكون من الفهم ، وأدق ما يكون من الفقة .

                          وأيضا ، فالشفعة تقف على ملك ومالك ، فإذا اختصت الشفعة بملك دون مالك ، وهو العقار دون غيره ، فأولى أن تختص بمالك دون مالك ، وهو المسلم دون غيره ، وهذا على أصل من يقول : ( الشفعة تثبت على خلاف القياس ظاهر جدا ، فإنها تسليط على انتزاع ملك الغير منه قهرا ، لمصلحة الشفيع ، فيجب أن يقتصر بها على ما قام عليه الدليل ، وثبت به الإجماع دون غيره .

                          وأما نحن فليست الشفعة عندنا على خلاف القياس ، ولكن حكمة الشارع وقياس أصوله أوجبتها ، دفعا لضرر الشركة بحسب الإمكان ، وإذا كان البائع قد رغب عن الشقص ورضي بالثمن ، فرغبته عنه لشريكه ليدفع عنه ضرر الشريك الدخيل أولى ، وهو يأخذ منه الثمن الذي يأخذه من الشريك ، ولا يفوت عليه شيء .

                          فهذا محض قياس الأصول ، ولكن هذا حق للمسلم على المسلم ، فلا حق للذمي فيه كسائر الحقوق التي لأهل الإسلام بعضهم على بعض ، وإذا كان كثير من الفقهاء يمنعون الذمي من التمليك بالإحياء كعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد في رواية وكثير من المالكية ، مع أن الإحياء لا يتضمن انتزاع ملك مسلم منه ، فلأن يمنع من انتزاع أرض المسلم وعقاره [ ص: 596 ] منه قهرا أولى وأحرى .

                          وأيضا ، فإذا منع من مشاركة المسلم في تجديد الملك فيما هو مشترك - وفيه عمارة لدار الإسلام - فأحرى أن يمنع من انتزاع عقار ثبت عليه ملك المسلم واختص به ، فإن إزالة الملك الخاص وانتزاعه من المسلم قهرا أشد ضررا من المشاركة فيما هو مشترك بين العموم .

                          وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله ولا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماع من الأمة ، وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات كقوله : " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يقسم " ، وقوله : " من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل أن يبيع حتى يؤذن شريكه " ، ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق ، وإنما سيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك من أهل الملة وغيرها .

                          وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم ، فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس ، وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا ، فإن الذمي يستحق عليه القصاص ، ولا يستحقه هو على المسلم ، ويستحق عليه حد القذف ولا [ ص: 597 ] يستحقه ، وكذلك المطلق في مرض الموت يستحق عليه الميراث ولا يستحقه ، وكذلك المسلم يستحق تعلية البنيان على الذمي ولا يستحقه الذمي عليه ، والمسلم يستحق نكاح الكافرة وشراء الرقيق الكافر ، ولا يستحق الذمي نكاح المسلمة ولا شراء الرقيق المسلم ، والمسلم يستأجر الكافر للخدمة دون العكس .

                          وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط ، فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلامة وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته ، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا ، واستيلائه عليه ؟

                          وكذلك قياس بعضهم ذلك على ثبوت الخيار في البيع هو من هذا الضرب ، فإن الخيار إن كان خيار شرط فهو شرطه له على نفسه ، وإن كان خيار مجلس فمن لا يثبته كيف يحتج به ؟ وإن ألزم به من يثبته فهو يفترق عنه بأن خيار المجلس هو موجب العقد شرعا فلا يتخلف عن العقد ، كالحلول والتقابض والسلامة ، وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على التملك بالإحياء مع أنه تملك بغير عوض يرجع إلى المسلمين ، فيقال : من الذي سلم الحكم في هذه المسألة ؟ وقد تنازع فيها الفقهاء قديما وحديثا على أحوال أربعة :

                          أحدها : أنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام : وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد ، وهو منصوص الشافعي وقول طائفة من المالكية وأهل [ ص: 598 ] الظاهر .

                          الثاني : أنه يملك به كالمسلم ، وهو المنصوص عن أحمد في رواية حرب وإبراهيم بن هانئ ويعقوب بن بختان ومحمد بن [ أبي ] حرب ، وهو قول الحنفية وأكثر المالكية ، واختيار أكثر الأصحاب .

                          [ ص: 599 ] واستثنى المالكية ما أحياه بجزيرة العرب ، فإنه لا يملكه فإن فعل أعطي قيمة ما عمر ونزع منه .

                          والقول الثالث : أنه إن أذن له الإمام ملك به وإلا لم يملك ، وهذا مذهب ابن المبارك .

                          الرابع : أنه إن أحيا فيما بعد من العمران ملكه ، وإن أحيا فيما قرب من العمران لم يملكه وإن أذن فيه الإمام ، فإن فعل أعطي قيمة ما عمر ونزع منه ، وهذا قول مطرف وابن الماجشون .

                          والذين يملكونه بالإحياء اختلفوا فيما أحياه ، هل يلزمه عنه خراج أو عشر ، أو لا يلزمه شيء من ذلك ؟

                          [ ص: 600 ] فقال صاحب " المحرر " : والذمي كالمسلم في الملك بالإحياء ، نص عليه ، لكن إن أحيا موات عنوة لزمه عنه الخراج ، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه فيه .

                          ونقل عنه حرب : عليه عشر ثمره وزرعه .

                          والمقصود أنا إن قلنا : لا يملك الذمي بالإحياء بطل الاستدلال به ، وإن قلنا : يملك به فالفرق بينه وبين تملكه بالشفعة من وجوه ثلاثة :

                          أحدها : أنه بالإحياء لا ينتزع ملك مسلم منه ، بل يحيي مواتا لا حق فيه لأحد ينتفع به ، فهو كتملك المباحات من الحطب والحشيش والمعادن وغيرها .

                          الثاني : أنه ليس في إحيائه ضرر على المسلم ولا قهر وإذلال له ، بخلاف تسليطه على إخراجه من داره وأرضه ، واستيلائه هو عليها .

                          الثالث : أنه بالإحياء عامر للأرض الموات ، وفي ذلك نفع له وللإسلام ، بخلاف قهره للمسلم وأخذ أرضه وداره منه ، وإخراجه منها ، فقياس الأخذ بالشفعة على الإحياء باطل .

                          وعلى هذا فيجاب عن هذا القياس بالجواب المركب : أنه إن لم يكن بين الإحياء والأخذ بالشفعة فرق ، فالحكم فيهما واحد وهو عدم الملك بهما ، وإن كان بينهما فرق بطل الالتزام به والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية