الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) ( 10 ) .

قوله تعالى : ( ظلما ) : مفعول له ، أو مصدر في موضع الحال . ( في بطونهم نارا ) : قد ذكر في البقرة فيه شيء ، والذي يخص هذا الموضع أن في بطونهم حال من نارا ، أي : نارا كائنة في بطونهم ، وليس بظرف ليأكلون . ذكره في التذكرة . ( وسيصلون ) يقرأ بفتح الياء ، وماضيه صلى النار يصلاها ؛ ومنه قوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) [ الليل : 15 ] ، ويقرأ بضمها على ما لم يسم فاعله ، ويقرأ بتشديد اللام على التكثير .

قال تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ) ( 11 ) .

قوله تعالى : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) : الجملة في موضع نصب بيوصي ؛ لأن المعنى يفرض لكم أو يشرع في أولادكم ؛ والتقدير : في أمر أولادكم . ( فإن كن ) : الضمير للمتروكات ؛ أي : فإن كانت المتروكات ؛ ودل ذكر الأولاد عليه . ( فوق اثنتين ) : صفة لنساء ؛ أي : أكثر من اثنتين . ( وإن كانت واحدة ) : بالنصب ؛ أي : كانت الوارثة واحدة بالرفع على أن كان تامة . و : ( النصف ) : بالضم والكسر لغتان ، وقد قرئ بهما . : ( فلأمه ) : بضم الهمزة ، وهو الأصل ، وبكسرها اتباعا لكسرة اللام قبلها ، وكسر الميم [ ص: 261 ] بعدها . ( وإن كانوا إخوة ) الجمع هنا للاثنين ؛ لأن الاثنين يحجبان عند الجمهور ، وعند ابن عباس هو على بابه ، والاثنان لا يحجبان ، والسدس والثلث والربع والثمن بضم أوساطها ، وهي اللغة الجيدة ، وإسكانها لغة ، وقد قرئ بها .

( من بعد وصية ) : يجوز أن يكون حالا من السدس تقديره : مستحقا من بعد وصية ، والعامل الظرف . ويجوز أن يكون ظرفا ؛ أي : يستقر لهم ذلك بعد إخراج الوصية ، ولا بد من تقدير حذف المضاف ؛ لأن الوصية هنا المال الموصى به ، وقيل : تكون الوصية مصدرا مثل الفريضة .

( أو دين ) : " أو " لأحد الشيئين ، ولا تدل على الترتيب إذ لا فرق بين قولك جاءني زيد أو عمرو ، وبين قولك جاء عمرو أو زيد ؛ لأن أو لأحد الشيئين والواحد لا ترتيب فيه وبهذا يفسر قول من قال : التقدير : من بعد دين أو وصية ، وإنما يقع الترتيب فيما إذا اجتمعا فيقدم الدين على الوصية . ( آباؤكم وأبناؤكم ) : مبتدأ . ( لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) : الجملة خبر المبتدأ ، وأيهم مبتدأ ، وأقرب خبره والجملة في موضع نصب بتدرون ؛ وهي معلقة عن العمل لفظا ؛ لأنها من أفعال القلوب و ( نفعا ) : تمييز . و ( فريضة ) : مصدر لفعل محذوف ؛ أي : فرض ذلك فريضة .

قال تعالى : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ) ( 12 ) .

قوله تعالى : ( وإن كان رجل ) : في " كان " وجهان : أحدهما : هي تامة ورجل فاعلها ، و " يورث " صفة له و " كلالة " حال من الضمير في يورث . والكلالة على [ ص: 262 ] هذا : اسم للميت الذي لم يترك ولدا ولا والدا ، ولو قرئ - كلالة - بالرفع على أنه صفة ، أو بدل من الضمير في يورث لجاز ، غير أني لم أعرف أحدا قرأ به ، فلا يقرآن إلا بما نقل . والوجه الثاني : أن كان هي الناقصة ، ورجل اسمها ويورث خبرها و " كلالة " حال أيضا . وقيل : الكلالة اسم للمال الموروث ، فعلى هذا ينتصب " كلالة " على المفعول الثاني ليورث كما تقول ورث زيد مالا . وقيل : الكلالة اسم للورثة الذين ليس فيهم ولد ، ولا والد ، فعلى هذا لا وجه لهذا الكلام على القراءة المشهورة لأنه لا ناصب له ألا ترى أنك لو قلت زيد يورث إخوة لم يستقم ، وإنما يصح على قراءة من قرأ بكسر الراء مخففة ومثقلة وقد قرئ بهما وقيل : يصح هذا المذهب على تقدير حذف مضاف تقديره : وإن كان رجل يورث ذا كلالة فذا حال أو خبر كان ومن كسر الراء جعل كلالة مفعولا به وتكون الكلالة إما الورثة وإما المال وعلى كلا الأمرين أحد المفعولين محذوف ؛ والتقدير : يورث أهله مالا ( وله أخ أو أخت ) : إن قيل : قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره ؟

قيل : أما إفراده فلأن " أو " لأحد الشيئين ، وقد قال أو امرأة ، فأفرد الضمير لذلك ، وأما تذكيره ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : يرجع إلى الرجل لأنه مذكر مبدوء به . والثاني : أنه يرجع إلى أحدهما ، ولفظ أحد مذكر . والثالث : أنه راجع إلى الميت أو الموروث ، لتقدم ما يدل عليه . ( فإن كانوا ) : الواو ضمير الإخوة من الأم المدلول عليهم بقوله أخ أو أخت و ( ذلك ) : كناية عن الواحد . ( يوصى بها ) : يقرأ بكسر الصاد ؛ أي : يوصي بها المحتضر وبفتحها على ما لم يسم فاعله ، وهو في معنى القراءة الأولى ، ويقرأ بالتشديد على التكثير . ( غير مضار ) : حال من ضمير الفاعل في يوصي .

، والجمهور على تنوين مضار ، والتقدير : غير مضار بورثته . و ( وصية ) : مصدر لفعل محذوف ؛ أي : وصى الله بذلك ، ودل على المحذوف قوله غير مضار ، وقرأ الحسن : غير مضار وصية بالإضافة ، وفيه وجهان : أحدهما : تقديره : غير مضار أهل وصية ، أو ذي وصية ، فحذف المضاف . والثاني : تقديره : غير مضار وقت وصية ، فحذف ، وهو من إضافة الصفة إلى الزمان . ويقرب من ذلك قولهم هو فارس حرب ؛ أي : فارس في الحرب ، ويقال هو فارس زمانه ؛ أي : في زمانه ، كذلك التقدير : للقراءة غير مضار في وقت الوصية .

التالي السابق


الخدمات العلمية