الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 353 ] مسألة :

                                                                                                                                                                                          وإن أراد الذي عليه الدين المؤجل أن يعجله قبل أجله بما قل أو كثر لم يجبر الذي له الحق على قبوله أصلا

                                                                                                                                                                                          وكذلك لو أراد الذي له الحق أن يتعجل قبض دينه قبل أجله بما قل أو كثر لم يجز أن يجبر الذي عليه الحق على أدائه - : سواء في كل ذلك الدنانير والدراهم ، والطعام كله ، والعروض كلها ، والحيوان .

                                                                                                                                                                                          فلو تراضيا على تعجيل الدين أو بعضه قبل حلول أجله ، أو على تأخيره بعد حلول أجله ، أو بعضه : جاز كل ذلك - .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي سليمان ، وأصحابنا .

                                                                                                                                                                                          وقال المالكيون : إن كان مما لا مؤنة في حمله ونقله أجبر الذي له الحق على قبضه ، وإن كان مما فيه مؤنة في حمله ونقله لم يجبر على قبوله قبل محله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا قول في غاية الفساد - : أول ذلك : أنه قول بلا برهان ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب لا مخالف له ، ولا قياس ، ولا رأي سديد .

                                                                                                                                                                                          والثاني : أن شرط الأجل قد صح بالقرآن والسنة ، فلا يجوز إبطال ما صححه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          والثالث : أنهم أبطلوا هذا الشرط الصحيح الذي أثبته الله تعالى في كتابه . وأجازوا الشروط الفاسدة التي أبدلها الله تعالى في كتابه ، كمن اشترط لامرأته أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق ، وكل سرية يتخذها عليها فهي حرة ، وأن لا يرحلها عن دارها ، فإن فعل فأمرها بيدها

                                                                                                                                                                                          واحتجوا هاهنا برواية مكذوبة وهي " المسلمون عند شروطهم " فهلا احتجوا بها إذ هي عندهم صحيحة في إنفاذ شرط التأجيل المسمى بالدين ، فتأملوا هذه الأمور تروا العجب

                                                                                                                                                                                          والرابع : أنهم احتجوا في هذا بعمر ، وعثمان ، فيما روي عنهما في القضاء بقبول تعليم الكتابة قبل أجلها ، وقد أخطئوا في هذا من وجوه . [ ص: 354 ]

                                                                                                                                                                                          أولها : أنه لا حجة فيمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          والثاني أنه إنما جاء ذلك عن عمر ، وعثمان ، في الكتابة خاصة ، فقاسوا عليها سائر الديون ، وهم مقرون بأن حكم الكتابة مخالف لحكم الديون في جواز الحمالة وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                          والثالث : أنه قد خالف عمر ، وعثمان في ذلك أنس فلم ير تعجيل الكتابة قبل أجلها .

                                                                                                                                                                                          والرابع : أنهم خالفوا عمر ، وعثمان ، في مئين من القضايا .

                                                                                                                                                                                          منها - إجبار عمر سادات العبيد على كتابتهم بالضرب إذا طلب العبيد ذلك ، وغير هذا كثير ، فمن الباطل أن يكون قولهما حجة في موضع غير حجة في آخر .

                                                                                                                                                                                          والخامس : أنهم قد خالفوا عمر ، وعثمان ، في هذه القضية نفسها ، لأنه جاء عنهما وضع الكتابة في بيت المال ، ثم يعطي السيد في كل نجم حقه ; فظهر فساد هذا القول - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وقد موه بعضهم بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا تحريف منهم للكلم عن مواضعه ، لأن هذا الخبر إنما هو في العطاء المبتدأ الذي نهينا عن السؤال فيه - عن غير ضرورة أو بغير سلطان - ولا في الحقوق الواجبة الواجب السؤال عنها وطلبها أو الإبراء منها لله تعالى .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وليت شعري أي فرق بين إرادة الذي عليه الحق تعجيل ما عليه قبل أجله مع إباية الذي له الحق من ذلك وبين إرادة الذي له الحق تعجيل ما له قبل أجله مع إباية الذي عليه الحق من ذلك ؟ إذ أوجبوا الواحد ومنعوا الآخر .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إن الذي عليه الحق يريد أن يبرأ مما عليه ؟ قلنا لهم : والذي له الحق يريد أن يبرئ الذي عليه الحق مما عليه .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : ليس يريد ذلك الذي عليه الحق إلا إلى أجله ؟ [ ص: 355 ] قلنا لهم : ولا يريد ذلك الذي له الحق إلا إلى أجله .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية