الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) فإن عطف هذا الأمر بالفاء لا يصح إلا إذا كان مبنيا على ما هو سبب له ، وهو البينة على صدقه ووجوب طاعته ، ولو كان معطوفا على قوله : ( اعبدوا الله ) لعطف بالواو .

                          بدأ الدعوة بالأمر بالتوحيد في العبادة لأنه أساس العقيدة وركن الدين الأعظم ، وقفي عليه بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا ، والنهي عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا ؛ لأن هذا كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي ، فكان شأنه معهم كشأن لوط عليه السلام إذ بدأ بنهي قومه عن الفاحشة السوأى التي كانت فاشية فيهم .

                          كان قوم شعيب من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم أو يزيدون عليه ، وإذا كالوهم أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان أي ينقصونه ، فيبخسونهم أشياءهم وينقصونهم حقوقهم والبخس أعم من نقص المكيل والموزون فإنه يشمل غيرهما من المبيعات كالمواشي والمعدودات [ ص: 469 ] ويشمل البخس في المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق ، وكذا بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل ، وكل من البخسين فاش في هذا الزمان ، فأكثر التجار باخسون مطففون مخسرون ، فيما يبيعون وفيما يشترون وأكثر المشتغلين بالعلم والأدب وكتاب السياسة بخاسون لحقوق صنفهم ، ونفاجون فيما يدعون لأنفسهم ، يتشبعون بما لم يعطوا كلابس ثوبي زور ، وينكرون على غيرهم ما أعطاه الله بباعث البغي والحسد والغرور .

                          وجملة ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) تشعر بأنهم كانوا يتواطئون على هضم الغريب وبخسه ، وإن كانت تشمل بخس الأفراد بعضهم أشياء بعض ، وهضم الشعب في جملته أشياء الغرباء الذين يعاملونهم ، فقد روي أنهم كانوا إذا دخل الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف ، فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس يعني النقصان ، وهذه النقيصة فاشية بين الأمم والشعوب في هذا العصر ، فتجد بعضهم يذم بعضا وينكر فضله كالأفراد وترى التجار في عواصم أوربة يغالون من الأسعار للغرباء ما يرخصون لأهل البلاد وترى بعض الغرباء يستحلون من نهب أموال المصريين بضروب الحيل والتلبيس ما لا يستحلون مثله في معاملة أبناء جلدتهم ، وأما المصريون وأمثالهم من الشرقيين فهم في معاملة الإفرنج كما قال الشاعر :


                          لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا


                          يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة     ومن إساءة أهل السوء إحسانا



                          ويا ليتهم يعاملون أنفسهم ومن تجمعهم معهم أقوى المقومات هذه المعاملة ، بل يكثر فيهم من يبخسون أبناء قومهم وملتهم أشياءهم ويهضمون حقوقهم ، ويعظمون الأجنبي ويعطونه فوق حقه . وإنما استذلهم للأجانب حكامهم ، فهم في جملتهم مبخوسون لا باخسون ، ومظلومون لا ظالمون ، وهم على ذلك مذمومون لا محمودون ، ومكفورون لا مشكورون .

                          ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) تقدم نص هذه الجملة في آية ( 56 ) خطابا لأمتنا ففسرناها بما يناسب المقام . ونقول فيما يناسب المقام هنا : إن الإفساد في الأرض يشمل إفساد نظام الاجتماع البشري بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل والبغي والعدوان على [ ص: 470 ] الأنفس والأعراض ، وإفساد الأخلاق والآداب بالإثم والفواحش الظاهرة والباطنة وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام . وإصلاحها هو ما يصلح به أمرها وحال أهلها من العقائد الصحيحة المنافية لخرافات الشرك ومهانته ، والأعمال الصالحة المزكية للأنفس من أدران الرذائل ، والأعمال الفنية المرقية للعمران وحسن المعيشة ، فقد قال تعالى في أوائل هذه السورة : ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ) ( 10 ) فقد أصلح الله تعالى حال البشر بنظام الفطرة وكمال الخلقة ، ومكنهم من إصلاح الأرض بما آتاهم من القوى العقلية والجوارح ، وبما أودع في خلق الأرض من السنن الحكيمة ، وبما بعث به الرسل من مكملات الفطرة ، فالإفساد إزالة صلاح أو إصلاح ، وقد كان قوم شعيب من المفسدين للدين والدنيا كما يعلم من هذه الآية وما بعدها ، والإصلاح ما يكون بفعل فاعل ، وهو إما الخالق الحكيم وحده ، وإما من سخرهم للإصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط ، والحكام العادلين الذين يقيمون القسط ، وغيرهم من العاملين الذين ينفعون الناس في دينهم ودنياهم ، كالزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة ، وهذه الأعمال تتوقف في هذا العصر على علوم وفنون كثيرة ، فهي واجبة وفقا لقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية