الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويقول .

بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ثم يدخل وقت الخلوة أو يتكلف تخلية الحمام فإنه إن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطين للعورات فالنظر إلى الأبدان مكشوفة فيه شائبة من قلة الحياء وهو مذكر للنظر في العورات ثم لا يخلو الإنسان في الحركات عن انكشاف العورات بانعطاف في أطراف الإزار فيقع البصر على العورة من حيث لا يدري ولأجله عصب ابن عمر رضي الله . عنهما عينيه ويغسل الجناحين عند الدخول ولا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فإنه المأذون فيه بقرينة الحال والزيادة عليه لو علمه الحمامي لكرهه لا سيما الماء الحار فله مئونة وفيه تعب وأن يتذكر حر النار بحرارة الحمام ويقدر نفسه محبوسا في البيت الحار ساعة ويقيسه إلى جهنم فإنه أشبه بيت بجهنم النار من تحت والظلام من فوق نعوذ بالله من ذلك بل العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة فإنها مصيره ومستقره فيكون له في كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة وموعظة فإن المرء ينظر بحسب همته .

فإذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك دارا معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها .

فكذلك سالك طريق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئا إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة فإن نظر إلى سواد تذكر ظلمة اللحد وإن نظر إلى حية تذكر أفاعي جهنم وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة تذكر منكرا ونكيرا والزبانية وإن سمع صوتا هائلا تذكر نفخة الصور وإن رأى شيئا حسنا تذكر نعيم الجنة وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر ما ينكشف من آخر أمره بعد الحساب من الرد والقبول وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل ألا لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا فإذا نسب مدة المقام في الدنيا إلى مدة المقام في الآخرة استحقرها إن لم يكن ممن أغفل قلبه وأعميت بصيرته .

ومن السنن أن لا يسلم عند الدخول وإن سلم عليه لم يجب بلفظ السلام ، بل يسكت إن أجاب غيره وإن أحب قال عافاك الله ولا بأس بأن يصافح الداخل ويقول : عافاك الله لابتداء الكلام .

التالي السابق


ثم أشار المصنف إلى الثالث بقوله : (ثم يرفع) ، وفي بعض النسخ ، ثم يقدم [ ص: 403 ] (رجله اليسرى عند الدخول) في البيت الداخل لا المسلخ وذلك بعد أن ينزع ثيابه ويتزر بإزارين أحدهما في حقوه ، والثاني على كتفه ، ومنهم من يزيد إزارا ثالثا يربطه على رأسه كالغمامة ، وهو حسن وأشار إلى الرابع بقوله : (ويقول) عند ذلك : (بسم الله الرحمن الرحيم ) ولو اقتصر على بسم الله ، كما في آداب الدخول في الخلاء كان حسنا ، ثم يزيد على البسملة الاستعاذة كقوله عند دخوله في الخلاء : (أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم) وأشار إلى الخامس بقوله : (ثم يدخل وقت الخلوة) ، أي : يتحين خلوه عن ازدحام الناس فيدخله ، وهذا يختلف باختلاف الأقطار والبلدان وباختلاف عادات الناس في دخولهم فيه (أو يتكلف تخلية الحمام) عن دخول الناس بإعطاء أجرة زائدة (فإنه إن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين) والفضل والمعرفة (والمحتاطون للعورات) ، وفي بعض النسخ والمحافظون (فالنظر إلى الأبدان) حالة كونها (مكشوفة) ليس عليها ساتر (فيه شائبة من قلة الحياء وهو) مع ذلك (مذكر للتأمل في العورات) ، فإن الأبدان تختلف في السمن والبياض والترارة وباختلاف الأسنان من الشبوبية والطفولية والشيطان يوسوس إلى الإنسان بالتأمل والتمييز في هذه الأبدان المختلفة الألوان وما زال كذلك حتى يسري منها إلى التأمل في العورات الباطنة بمحض التخيلات ، بل ربما رسخ ذلك في فكره فيترتب عليه مفاسد قل أن يخلص منها المؤمن فليحذر من الاجتماع عريانا (ثم لا يخلو الإنسان في الحركات) ، أي : في أثنائها من ميله يمينا وشمالا (عن انكشاف العورات) لا محالة (بانعطاف) أو التواء (في أطراف الإزار فيقع البصر على العورة من حيث لا يدري) وحيث لا يقصد (ولأجله عصب ابن عمر رضي الله عنه على عينيه) بعصابة خوفا من الوقوع في مثل هذا المحذور (و) السادس (يغسل جناحيه عند الدخول) ، أي : كتفيه (و) السابع (لا يعجل بدخول البيت الحار) ، وهو المعروف ببيت الحوض (حتى يعرق في) البيت (الأول) والمراد منه أن يكون الدخول فيه بالترتيب ، فإذا نزع لباسه في المسلخ يدخل في البيت الأول ويمكث قليلا ، ثم يدخل الموضع المشترك فيجلس فيه حتى يعرق ، ثم يدخل البيت الحار ، وفي الشفاء والمعتدل البدن إذا دخل الحمام فليقعد في كل بيت ساعة ، ثم يصبر حتى يتندى بدنه ويكاد يعرق ويصب الماء على الكتفين وسائر الأعضاء ، ثم يتغمر ويتدلك برفق ولا يدخل البيت الحار إلا بتدريج فكيف الخروج منه ، فإن البدن حينئذ متسخن متخلخل قابل للتأثير بسرعة (و) الثامن (أن لا يكثر صب الماء) على بدنه وأطرافه (بل يقتصر على قدر الحاجة) إليه ، وهو ممنوع طبا وشرعا فأما طبا ، فإنه يرهل البدن ويرخي الأطراف ، وأما شرعا فبعد أن نقول : إنه من الإسراف (فإنه) القدر (المأذون فيه بقرينة الحال والزيادة عليه لو علمه الحمامي لكرهه) ولو كانت الأجرة مقدمة (لا سيما الماء الحار) ، أي : المسخن (فله مؤنة) وكلفة الوقيد (وفيه تعب) ظاهر (و) التاسع (أن يتذكر حر النار بحرارة الحمام) ولذع مسه وغشيان ظلمته (ويقدر نفسه محبوسا في البيت الحار ساعة ويقيسه إلى جهنم) ولو كان بين النارين شتان (فإنه) ، أي : الحمام (أشبه بيت بجهنم النار من تحت) الأطباق (والظلام من فوق) ، وهكذا حال جهنم (نعوذ بالله من ذلك) وليذكر بقلة صبره على الحمام عظيم كربة حبسه في جهنم وأنه لو أقام في الحمام فضل ساعة لضعفت روحه ويخرج خفوتا فيكون له في الحمام موعظة وعبرة ، وهذا الذي ذكره المصنف بالنسبة إلى حمامات بلاد الروم والشام والعجم ، فإنهم يجعلون الحمامات على سراديب يوقدون تحتها فلا يستطيع الإنسان أن يقعد إلا على لوح خشب ولا يكاد أن يمشي إلا بنعلي خشب لشدة حرارة الأرض ، وأما حمامات الديار المصرية فعلى خلاف ذلك ، فإنهم يوقدون تحت القدور التي فيها المياه فقط ويسخن الموضع لشدة حرارة المياه ومما يتذكر الإنسان إذا دخل الحمام عند تجريده عن الثياب عنه (بل العاقل) الكامل (لا يغفل عن ذكر) أمور (الآخرة في لحظة) من اللحظات (فإنها) ، أي : الآخرة (مصيره) ، أي : مرجعه (ومستقره فيكون له في كل ما يراه) بعينه (من ماء أو نار أو غيرهما) [ ص: 404 ] كتجريد عن الثياب وتمدد بين يدي الدلاك (عبرة) يعتبر بها (وموعظة) يتعظ بها (فإن المرء ينظر) الشيء (بحسب همته) واستعداده الذي جبل عليه (فإذا) فرض أنه (دخل بزاز) من يبيع أنواع البز (ونجار) من يتعانى نجر الخشب وتسويته (وبناء) من يتعاطى بناء الدور والمنازل (وحائك) من يحوك الثياب وينسجها ، وكذا نقاش (دارا معمورة) منقوشة (مفروشة) بأنواع النقوش في الحيطان والسقوف وأنواع الفرش الفاخرة (فإذا تفقدتهم) وتطلبت باطن أحوالهم (رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها) وأن طاقة من هذه تسوي كذا ، ومن هذه تسوي كذا ، ومن هذه تسوي كذا (والحائك ينظر إلى الثياب) وهيئاتها (ويتأمل نسجها) وحياكتها (والنجار ينظر إلى السقوف) وما فيها من الخشب هل هو رومي أو عربي (ثم يتأمل كيفية تركيبها) ولقد دخلت مرة مع بعض أصحابنا من أهل العلم قصرا بناه بعض الأمراء خارج مصر فبمجرد ما وقع بصره على سقوفه لم يعجبه إلا الخشب ولم يلتفت إلى غيره من بناء وتخصيص وغير ذلك فتعجبت من ذلك غاية العجب ولم يخطر ببالي إذ ذاك إلا حسن إتقانه من حيث المجموع في الجملة ولم يعد غير ذلك (والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها) والنقاش ينظر إلى النقوش والصباغات والدهانات (فكذلك سالك طريق الآخرة لا يرى من الأشياء) الظاهرة بعينه (شيئا إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة) يتعظ به ويتذكر ويتصبر ويتدبر (بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة) يعتبر بها (فإن نظر إلى سواد يذكره ظلمة اللحد) ، أي : القبر ، فإنه لا منفذ فيه للنور أصلا ، وإن نظر إلى نور مضيء يذكره نور الإيمان حين يسعى بين يديه وبإيمانه (وإن نظر إلى حية) أو عقرب (تذكره أفاعي جهنم) وعقاربها ومآلها من عظم الجثة والسم (وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة) منكرة (تذكره منكرا ونكيرا) وكيفية دخولهما في القبر وهم على صورة بشعة ولهم أنياب كأنياب الكلاب يشقون الأرض شقا حتى يدخلوا القبر (و) كذلك تذكره تلك الصورة (الزبانية) وهم طائفة من الملائكة يدفعون أهل النار إليها (وإن سمع صوتا هائلا) ، أي : عظيما مخوفا (تذكر نفخة الصور) حين ينفخ فيه سيدنا إسرافيل عليه السلام وأذكر أني كنت صغيرا دون البلوغ فسمعت رجلا ينفخ في صور فتذكرت هول يوم القيامة وهالني ذلك الصوت حتى غشي علي فما أقاموني عن الأرض إلا بعد أن رشوا الماء على وجهي وصرت بعد ذلك لا يخرج هول ذلك الصوت من خيالي مدة (وإن رأى شيئا حسنا) تستحسنه النفوس والعيون (تذكر نعيم الجنة) وأن لا عيش إلا عيش الآخرة ، وهذا الذي يرى نعيما زواله عن قريب ، وإنما المدار على نعيم الجنة (وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر كل ما ينكشف من آخر أمره) يوم العرض على الله عز وجل (بعد الحساب من الرد والقبول وما أجدر أن يكون هذا التأمل هو الغالب على قلب العاقل) مستوليا عليه (إذ لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا) وضرورياتها (فإذا نسب مدة المقام في الدنيا) ، أي : مدة إقامته فيها ولو على أطول عمر رجل (إلى مدة المقام في الآخرة) إما في النعيم ، وإما في الجحيم (استحقرها) ، أي : مهمات الدنيا (إن لم يكن ممن أغفل قلبه) ، وفي نسخة ممن أقفل على قلبه (وأعميت بصيرته) ، فإن من كان بهذا الوصف فلا ينظر إلا أمور الدنيا . وليس له حظ في أمور الآخرة ، فإذا سمع شيئا منها استبعدها وأشار إلى العاشر من السنن بقوله : (ومن السنن أن لا يسلم) على أحد (عند الدخول) في البيت الأول منه (وإن سلم عليه لم يجب بلفظ السلام ، بل يسكت إن أجاب غيره) ومقتضاه أنه لو أجاب بلفظ غير السلام جاز وذلك لأنه محل تكشف فيه العورات وترتفع فيه الأصوات فلا يناسب ذكر اسم الله تعظيما له ، وفي القوت ، وروينا أن رجلا سلم على الحسن رضي الله عنه في الحمام فقال : ليس في الحمام سلام ولا تسليم (وإن أحب قال) في الجواب (عافاك الله) ، أي : محا عنك الذنوب والأسقام ، وقد صارت هذه الكلمة معروفة في خطاب من يخرج من الخلاء أو يقول : عوفيت وشفيت أو نعيما لكم أو ما أشبه ذلك (ولا بأس بأن يصافح الداخل) ، أي : يأخذ بيده استئناسا للكلام (ويقول : عافاك الله) وأدام سلامتك (لابتداء [ ص: 405 ] الكلام) بدل السلام .




الخدمات العلمية