الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) .

قال ابن عباس : تهجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده : ( يا رحمان يا رحيم ) . فقال المشركون : كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن ، ما الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة ، فنزلت قاله في التحرير . ونقل ابن عطية نحوا منه عن مكحول . وقال عن ابن عباس : سمعه المشركون يدعو يا الله يا رحمن ، فقالوا : كان يدعو إلها واحدا وهو يدعو إلهين فنزلت . وقال ميمون بن مهران : كان عليه السلام يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها ، فقال مشركو العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن ؟ فنزلت . وقال الضحاك : قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فنزلت لما لجوا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام ، وعجزوا عن معارضته ، وكان عليه [ ص: 90 ] الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه - عليه الصلاة والسلام - بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : ( قل ادعوا الله ) الآية . والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن ، فهو من الدعاء بمعنى النداء ، والمعنى إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته . قال الزمخشري : والدعاء بمعنى التسمية ، لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيدا ثم تترك أحدهما استغناء عنه ، فتقول : دعوت زيدا . انتهى . ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين ثانيهما بحرف جر ، تقول : دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء . وقال الشاعر في دعا هذه :


دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن أخاها ولم أرضع لها بلبان

وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر ، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري ، يكون الثاني لقوله : ( ادعوا ) لفظ الجلالة ، ولفظ ( الرحمن ) وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف ، وكأن التقدير ( ادعوا ) معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ، ولهذا قال الزمخشري : المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير ، فمعنى ( ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا وإما هذا . انتهى . وكذا قال ابن عطية : هما اسمان لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك ، وأي هنا شرطية . والتنوين قيل : عوض من المضاف و ( ما ) زائدة مؤكدة . وقيل : ( ما ) شرط ودخل شرط على شرط . وقرأ طلحة بن مصروف . ( أيا ) من ( تدعوا ) فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادعى زيادتها في قوله :


يا شاة من قنص لمن حلت له



واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ ، كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر :


فأصبحن لا يسألنني عن بما به



وذلك لاختلاف اللفظ . والضمير في ( فله ) عائد على مسمى الاسمين وهو واحد ، أي : فلمسماهما ( الأسماء الحسنى ) وتقدم الكلام على قوله : ( الأسماء الحسنى ) في الأعراف .

وقوله : ( فله ) هو جواب الشرط . قيل : ومن وقف على ( أيا ) جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز ، ثم استأنف فقال : ما تدعوه ( فله الأسماء الحسنى ) وهذا لا يصح ; لأن ( ما ) لا تطلق على آحاد أولي العلم ، ولأن الشرط يقتضي عموما ولا يصح هنا ، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس و عائشة وجماعة . وعن ابن عباس أيضا : هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي : بقراءة الصلاة ، ولا يلبس تقدير هذا المضاف ; لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه - الصلاة والسلام - يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين ، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين .

( وابتغ بين ذلك ) أي : بين الجهر والمخافتة ( سبيلا ) وسطا وتقدم الكلام على ( بين ذلك ) في قوله : ( عوان بين ذلك ) . وقال ابن عباس أيضا والحسن : لا تحسن علانيتها وتسيء سريتها . وعن عائشة : الصلاة يراد بها هنا التشهد . وقال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر يسر قراءته و عمر يجهر بها ، فقيل لهما في ذلك ، فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي ، وقال عمر : أنا أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت قيل لأبي بكر : ارفع أنت قليلا ، وقيل لعمر : اخفض أنت قليلا . وعن ابن عباس أيضا : المعنى ( ولا تجهر ) بصلاة النهار ( ولا تخافت ) بصلاة الليل . وقال ابن زيد : معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل [ ص: 91 ] والتوراة من رفع الصوت أحيانا فيرفع الناس معه ، ويخفض أحيانا فيسكت الناس خلفه . انتهى . كما يفعل أهل زماننا من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النغم المتخذة للغناء .

ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء ، ووصف نفسه بأنه ( لم يتخذ ولدا ) فيعتقد فيه تكثر بالنوع ، وكان ذلك ردا على اليهود والنصارى والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله ، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله . ونفى أولا الولد خصوصا ، ثم نفى الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره ، ولما نفى الولد ونفى الشريك نفى الولي وهو الناصر ، وهو أعم من أن يكون ولدا أو شريكا أو غير شريك . ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار ، والاعتزاز به ، والاحتماء من الذل ، وقد يكون للتفضل والرحمة لمن والى من صالحي عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة ، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفى الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك ; فإنهما نفيا على الإطلاق . وجاء الوصف الأول بقوله : ( الذي لم يتخذ ولدا ) والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعد أحدا ولدا ولم ينفه بجهة التوالد ; لاستحالة ذلك في بداءة العقول ، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ، ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا .

وقال مجاهد : في قوله ( ولم يكن له ولي من الذل ) المعنى لم يخالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد . وقال الزمخشري : ( ولي من الذل ) ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به ، أو لم يوال أحدا من أجل المذلة به ; ليدفعها بموالاته . انتهى . وقيل : ولم يكن له ( ولي ) من اليهود والنصارى ; لأنهم أذل الناس فيكون ( من الذل ) صفة لولي . انتهى . أي ( ولي من ) أهل ( الذل ) فعلى هذا وما تقدم يكون ( من ) في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض .

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد ؟ قلت : لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد ، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي : لا ذل يوجد في حقه ، فيكون له ولي ينتصر به منه ، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان .

( وكبره تكبيرا ) التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، وأكد بالمصدر تحقيقا له وإبلاغا في معناه ، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية ( وقل الحمد لله ) إلى آخرها والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية