الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الرابعة

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يجتهدون في مسائل الفقه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم ، وبعد وفاته من غير نكير . وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى أمثلة كثيرة لذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن ذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يصلوا العصر في بني قريظة ، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق ، وقال : لم يرد منا تأخير العصر ، وإنما أراد سرعة النهوض . فنظروا إلى المعنى . واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة ، فصلوها ليلا . وقد نظروا إلى اللفظ ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر ، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : أن عليا - رضي الله عنه - لما كان باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كل منهم : هو ابني . فأقرع بينهم ، فجعل الولد للقارع ، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية . فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي - رضي الله عنه . ومنها : اجتهاد سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في حكمه في بني قريظة ، وقد صوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهاد الصالحين اللذين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر . فصوبهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال للذي لم يعد : " أصبت السنة وأجزأتك صلاتك " ، وقال للآخر : " لك الأجر مرتين " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهاد مجزز المدلجي بالقيافة ، وقال : إن أقدام زيد وأسامة بعضها من بعض ، وقد سر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى برقت أسارير وجهه . وذلك دليل على صحة إلحاق ذلك القائف الفرع بالأصل ، مع أن زيدا أبيض وأسامة أسود ، فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله ، وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهاد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في الكلالة ، قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ( أراه ما خلا الوالد والولد ) فلما استخلف عمر قال : إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومن أغرب الأشياء عندي ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار له إلى معنى الكلالة إشارة واضحة ظاهرة [ ص: 195 ] جدا . ولم يفهمها عنه مع كمال فهمه وعلمه ، وأن الوحي ينزل مطابقا لقوله مرارا ، وذلك أنه - رضي الله عنه - قال : ما سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : " تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " . وهذا الإرشاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - واضح كل الوضوح في أنه يريد أن الكلالة هي ما عدا الولد والوالد ؛ لأن آية الصيف المذكورة التي أخبره أنها تكفيه دلت على ذلك دلالة كافية واضحة فقوله تعالى فيها : إن امرؤ هلك ليس له ولد [ 4 \ 176 ] صريح في أن الكلالة لا يكون فيها ولد ، وقوله فيها : وله أخ أو أخت [ 4 \ 12 ] يدل بالالتزام على أنها لا أب فيها ؛ لأن الإخوة والأخوات لا يرثون مع الأب ، وذلك مما لا نزاع فيه ، فظهر أن آية الصيف المذكورة تدل بكل وضوح على أن الكلالة ما عدا الولد والوالد ، ولم يفهم عمر - رضي الله عنه - الإشارة النبوية المذكورة ، فالكمال التام له - جل وعلا - وحده ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهاد ابن مسعود - رضي الله عنه - في المرأة التي توفي زوجها ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، لها كمهر نسائها لا وكس ، ولا شطط ، ولها الميراث وعليها العدة . وقد شهد لابن مسعود بعض الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بنحو ذلك في بروع بنت واشق ، ففرح بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهاد الصحابة في أن أبا بكر - رضي الله عنه - أولى من غيره بالإمامة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه على غيره في إمامة الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهاد أبي بكر في العهد بالخلافة إلى عمر ، سواء قلنا : إنه من المصالح المرسلة أو قلنا : إنه قاس العهد بالولاية على العقد لها . ومن ذلك اجتهادهم في جمع المصحف بالكتابة . ومن ذلك اجتهادهم في الجد ، والإخوة ، والمشتركة المعروفة بالحمارية ، واليمية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهاد أبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء ، واجتهاد عمر في تفضيل بعضهم على بعض فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : اجتهادهم في جلد السكران ثمانين ، قالوا : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى فحدوه حد الفرية . وأمثال هذا كثيرة جدا ، وهي تدل على أن اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه متواتر معنى ، فإن الوقائع منهم في ذلك وإن لم تتواتر آحادها فمجموعها يفيد العلم [ ص: 196 ] اليقيني لتواترها معنى ، كما لا يخفى على من تعلم ذلك . ورسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى المتضمنة لذلك مشهورة . وقال ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) : وقال الشعبي عن شريح ، قال لي عمر : اقض بما استبان لك من كتاب الله ، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين ، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك ، واستشر أهل العلم والصلاح . . إلى أن قال : وقايس علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زيد بن ثابت في المكاتب ، وقايسه في الجد والإخوة ، وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال : عقلها سواء ، اعتبروها بها . قال المزني : الفقهاء من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا - وهلم جرا - استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم ، وأجمعوا بأن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل ، فلا يجوز لأحد إنكار القياس ؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه : ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسا على الكلاب بقوله : وما علمتم من الجوارح مكلبين [ 5 \ 4 ] وقال عز وجل : والذين يرمون المحصنات [ 24 \ 4 ] فدخل في ذلك المحصنون قياسا . وكذلك قوله في الإماء : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام : ومن قتله منكم متعمدا [ 5 \ 95 ] فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ ، وقال : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ 33 \ 49 ] فدخل في ذلك الكتابيات قياسا :

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في الشهادة في المداينات : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] فدخل في معنى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قياسا للمواريث ، والودائع ، والغصوب وسائر الأموال . وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين . وقال عمن أعسر بما عليه من الربا : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [ 2 \ 280 ] فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال ، وثبت ذلك قياسه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا ، وإنما ورد النص في [ ص: 197 ] اجتماعهما بقوله : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] وقال : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 176 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا الباب قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم فيم لو قال لزوجته : أنت علي كظهر بنتي . وقياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان . وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري . قال : وهذا لو تقصيته لطال به الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : بعض هذه المسائل فيها نزاع ، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف . وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية ، فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات ، وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء . وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله : وما علمتم من الجوارح [ 5 \ 4 ] وقوله : مكلبين [ 5 \ 4 ] وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد ، قاله مجاهد والحسن ، وهو رواية عن ابن عباس . وقال أبو سليمان الدمشقي : مكلبين معناه معلمين ، وإنما قيل لهم : مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب . وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل ، كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله : فإنه رجس وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع ، وهم يضطرون فيها ولا بد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم . فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن فأرة وقعت بالسمن : " ألقوها وما حولها وكلوه " - : إن ذلك يختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات . هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا لا يفرقون فيه بين السمن والزيت والشيرج والدبس . كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر ، لا يفرق عالم يفهم عن الله رسوله بين ذلك وبين العنب بالزبيب . ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثا : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله [ 2 \ 230 ] أي : إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد به تجديد العقد ، وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط ، بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسا على الطلاق .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 198 ] ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تشربوا في صحافها ؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " . وقوله : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب ، بل يعم سائر وجوه الانتفاع ، فلا يحل له أن يغتسل بها ، ولا يتوضأ بها ، ولا يكتحل منها ، وهذا أمر لا يشك فيه عالم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرم عن لبس القميص ، والسراويل ، والعمامة ، والخفين ، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط ، بل يتعدى النهي إلى الجباب ، والأقبية ، والطيلسان ، والقلنسوة ، وما جرى مجرى ذلك من الملبوسات .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار " فلو ذهب معه بخرقة تنظيف أكثر من الأحجار ، أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز . وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة ، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز أو أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته " . معلوم أن المفسدة التي نهي عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة ، فلا يحل له أن يؤجر على إجارته . وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع ، وأحكامها غير أحكامه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في آية التيمم : وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ 5 \ 6 ] فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط . والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس ، على قول من فسره بما دون الجماع . وألحقت الاحتلام بملامسة النساء ، وألحقت واجد ثمن الماء بواجده ، وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بعادم الماء ، فجوزت له التيمم وهو واجد للماء . وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل . وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به ، وكونه متعلقا بمصلحة العبد - أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم [ ص: 199 ] مما لا ينكر تناول العموميين لها . فمن الناس من يتنبه لهذا ، ومنهم من يتفطن لتناول العموميين لها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله تعالى : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [ 2 \ 283 ] قاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه . فإن استدل على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه في الحضر فلا عموم في ذلك ؛ فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي ، فلا بد من القياس إما على الآية وإما على السنة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذ ثمنها في العشور التي عليهم فبلغ ذلك عمر قال : قاتل الله سمرة ؟ أما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لعن الله اليهود ؛ حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " وهذا محض القياس من عمر - رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين . وكما يحرم ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح ، والطلاق ، والعدة ؛ قياسا على ما نص الله عليه من قوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ثم ذكر آثارا دالة على أن الصحابة جعلوا العبد على النصف من الحر فيما ذكر قياسا على ما نص الله عليه من تنصيف الحد على الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك توريث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المبتوتة في مرض الموت برأيه ، ووافقه الصحابة على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه ، قال : أحسب كل شيء بمنزلة الطعام .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أن عمر وزيدا - رضي الله عنهما - لما قالا : إن الأم ترث ما بقي بعد أحد الزوجين في مسألة زوج أو زوجة مع الأبوين ، قاسا وجود أحد الزوجين مع الأبوين على ما إذا لم يكن هناك زوج ولا زوجة ، فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم ، فقدرا أن الباقي بعد الزوج أو الزوجة كل المال . وهذا من أحسن القياس ؛ فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة ، فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى [ ص: 200 ] كالأولاد وبني الأب ، وإما أن تساويه كولد الأم ، وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ مع مساواته لها في درجته ، فلا عهد به في الشريعة . فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أخذ الصحابة - رضي الله عنهم - في الفرائض بالعول ، وإدخال النقص على جميع ذوي الفرائض قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم . ولا شك أن العول الذي أخذ به الصحابة - رضي الله عنهم - أعدل من توفية بعض المستحقين حقه كاملا ونقص بعضهم بعض حقه ، فهذا ظلم لا شك فيه ، وأمثال هذا كثيرة ، فلو تقصيناها لطال الكلام جدا . وهذه الوقائع التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكر تدل دلالة قطعية على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يستعملون القياس في الأحكام ، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ، ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من أسانيدها ، فإنها في كثرة طرقها واختلاف مخارجها وأنواعها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا شك فيه وإن لم يثبت كل فرد من الإخبار بها كما هو معروف في أصول الفقه وعلم الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية