الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا قتيبة ) أي ابن سعيد ، كما في نسخة ، وأما نسخة ابن سعد بلا ياء فتحريف ( أخبرنا ) وفي نسخة صحيحة أنبأنا ، وفي نسخة حدثنا ( أبو الأحوص عن أبي إسحاق ) أي السبيعي ( عن مسلم بن نذير ) بضم نون وفتح ذال معجمة وسكون ياء فراء ، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ، والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وفي نسخة يزيد بفتح تحتية ، وكسر زاي آخره دال مهملة ، ففي التقريب مسلم بن نذير مصغرا ، ويقال : ابن يزيد كوفي يكنى أبا عياض نقله ميرك ( عن حذيفة بن اليمان ) بكسر النون بلا ياء ، كان حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين والفتن ، أسلم هو وأبوه قبل بدر وشهدا أحدا وقتل أبوه في المعركة قتله المسلمون خطأ ، فوهب لهم دمه ( قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي ) بفتح عين مهملة وضاد معجمة ، كل لحمة مجتمعة في عصب ، ففي النهاية على وزن طلحة ، وتبعه الحنفي واقتصر عليه ، وفي القاموس محركة ، وهو الموافق للأصول المصححة والنسخ المعتمدة ( أو ساقه ) شك من راوي حذيفة هل قال له حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بعضلة حذيفة ، أو أخذ بعضلة نفسه ، صلى الله عليه وسلم ذكره ابن حجر .

وقيل : الشك إما من مسلم بن نذير ، أو ممن دونه ، وأما أن يكون الشك من حذيفة فبعيد ، ويؤيده ما قال ميرك : الشك من الراوي ، ووقع في بعض الطرق بلفظ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أسفل من عضلة ساقي بغير شك ، انتهى . فاندفع ما قال العصام من أن الظاهر أن الشك من حذيفة ، ويتجه أن يكون من أحد الرواة ، ولا يتجه جزم الشارحين بأنه من الرواة انتهى . ولم أر من جزم به ، بل قالوا بترجيحه ، وأما ابن حجر مع كونه متأخرا عن العصام ، فلم يصرح بالجزم والقطع ( فقال ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ( هذا ) أي العضلة والتذكير باعتبار تذكير الخبر وهو ( موضع الإزار ) أي موضعه اللائق به ( فإن أبيت ) أي امتنعت من قبول النصيحة المتضمنة للعمل بالأكمل والأفضل ، وأردت التجاوز عن العضلة ، ( فأسفل ) بالرفع أي فموضعه أسفل من العضلة قريبا منها إلى الكعبين ( فإن أبيت فلا حق ) أي فاعلم أنه لا حق ( للإزار في الكعبين ) أي في وصوله إليهما والمعنى إذا جاوز [ ص: 215 ] الإزار الكعبين فقد خالفت السنة ، وقال الحنفي : يجب أن لا يصل الإزار إلى الكعبين انتهى . وهو غير صحيح ; لأن حديث أبي هريرة المخرج في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار ، يدل على أن الإسبال إلى الكعبين جائز ، لكن ما أسفل منه ممنوع ; ولذا قال النووي : القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف الإزار هو نصف الساق ، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين ، وما نزل من الكعبين فإن كان للخيلاء فممنوع منع تحريم ، وإلا فمنع تنزيه ، فيحمل حديث حذيفة هذا على المبالغة في المنع من الإسبال إلى الكعبين ; لئلا ينجر إلى ما تحت الكعبين على وزان قوله صلى الله عليه وسلم : " كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " ، ويفهم منه بطريق الأولى أن الاسترخاء إلى ما وراء الكعبين أشد كراهة ، وينبغي أن يعلم أن في معنى الإزار القميص ، وسائر الملبوسات ، وإنما خص الإزار بالذكر بناء على القضية الاتفاقية ، أو خرج الكلام مخرج الغالب ، فإن غالب ملبوساتهم كان إزارا ، قال ميرك : ويستثنى من الإسبال من أسبله لضرورة كمن يكون بكعبه جرح يؤذيه الذباب مثلا ، إن لم يستره بإزاره وثوبه حيث لم يجد غيره نبه على ذلك العراقي مستدلا بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس قميص الحرير من أجل حكة كانت بهما ، رواه البخاري وفي رواية أنه رخص لهما فيه لما شكيا إليه القمل ، وجمع بأنه يحتمل أن العلتين كانتا بهما معا ، أو أحدهما بعد الأخرى ، أو أن الحكة نشأت عن القمل فنسبت العلة تارة للسبب ، وتارة للمسبب ، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنهما شرعا لأجل الضرورة ، كما يجوز كشف العورة للتداوي .

واعلم أن القاضي عياضا نقل الإجماع على أن المنع من الإسبال في حق الرجال دون النساء ، لما ثبت في سنن النسائي وجامع الترمذي وصححه أن أم سلمة أم المؤمنين لما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعيد في حق مسبل الإزار ، قالت : كيف تصنع النساء بذيولهن ، فقال : يرخين شبرا فقالت : إذا تنكشف أقدامهن ، قال : فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه ، فالمقصود حصول الستر والمجاوزة عن الحد ممنوع ، إما كراهة أو تحريما ، فإذا لبست المرأة خفا أو ما في معناه فالظاهر أنه لا يجوز التجاوز عن القدم في حقهن ، وكذا جواز الإرخاء يكون باعتبار ثوب واحد للتستر ، فلا يتعدى إلى جميع الثياب ، والله أعلم بالصواب .

قال ميرك : ظاهر بعض الأحاديث يقتضي أن تحريم إسبال الإزار مخصوص بالجر ; لأجل الخيلاء ، كما في حديث ابن عمر عند البخاري مرفوعا ، لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء ، وعنده من حديث أبي هريرة بلفظ : لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا ، والبطر بفتحتين : التكبر والطغيان ، وقال بعض العلماء : يعلم من بعض الأخبار تحريم الإسبال لغير الخيلاء أيضا ، كحديث أبي هريرة في البخاري ما أسفل من الكعبين في النار ، لكن يستدل بالتقييد في حديثه وحديث ابن عمر بالخيلاء والبطر على أن الإطلاق في الزجر محمول على المقيد هنا ، فلا يحرم الإسبال إذا سلم من الخيلاء .

ويؤيده ما وقع في بعض طرق ابن عمر المذكور عند البخاري أيضا أن أبا [ ص: 216 ] بكر لما سمع ذلك قال : " يا رسول الله إن إحدى شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لست ممن يصنعه خيلاء " ، هذا ويدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ، والعذبة ونحوهما ، وقد نقل القاضي عياض كراهة كل ما زاد على العادة من الطول والسعة ، وتبعه الطبري ، وقال العراقي : حدث للناس اصطلاح ، وصار لكل صنف من الخلائق شعار يعرفون به ، فمهما كان ذلك بطريق الخيلاء فلا شك في تحريمه ، وما كان على سبيل العادة ، فلا يجري النهي فيه ، ما لم يصل إلى حد الإسراف المذموم ، والله سبحانه أعلم .

قيل : ولما كان صلى الله عليه وسلم لا يبدو منه إلا طيب ، كان علامة ذلك أن لا يتسخ له ثوب ، ومن خواصه أن ثوبه لم يقمل ، ونقل الفخر الرازي أن الذباب كان لا يقع على ثيابه قط ، وأن البعوض لا يمتص دمه ، واختلفوا هل لبس السراويل فجزم بعضهم بعدمه ، واستأنس له بأن عثمان لم يلبسه إلا يوم قتله ، لكن صح أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه ، قال ابن القيم : والظاهر أنه اشتراه ليلبسه ، قال : وروي أنه لبسه ، وكانوا يلبسونه في زمانه وبإذنه انتهى . وقد أخرج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لبس مرطا مرحلا من شعر أسود ، والمرط بكسر فسكون كساء من صوف أو خز يؤتزر به ، والمرحل بضم ففتح المهملة المشددة ، هو ما فيه صور رحال الإبل ، ولا بأس بها إذ لا يحرم إلا تصوير الحيوان ، وقول الجوهري إزار خز فيه علم ، قال في القاموس : غير جيد ، إنما ذلك تفسير المرجل بالجيم ، وروايته بالمهملة على ما صوبه النووي ونقله عن الجمهور ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية