الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              10 (باب منه)

                                                                                                                              وهو في النووي «في كتاب الإيمان»

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص161 164 ج1 المطبعة المصرية [عن أبي هريرة ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر. قال: يا رسول الله ! ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: يا رسول الله ! ما الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك. قال: يا رسول الله ! متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل [ ص: 55 ] ولكن سأحدثك عن أشراطها؛ إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا صلى الله عليه وسلم إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير قال: ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ردوا علي الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              عن أبي هريرة (قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس) أي ظاهرا ومنه قول الله تعالى:

                                                                                                                              وترى الأرض بارزة .

                                                                                                                              وبرزوا لله جميعا .

                                                                                                                              وبرزت الجحيم .

                                                                                                                              ولما برزوا لجالوت .

                                                                                                                              [ ص: 56 ] (فأتاه رجل ) وفي رواية أخرى عند مسلم «عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه» الحديث ، أي: وضع الرجل الداخل «كفيه» على «فخذي نفسه» ، وجلس على هيئة المتعلم. قاله النووي. قال السيوطي في الديباج: ووافقه التوربشتي.

                                                                                                                              وجزم البغوي وإسماعيل النيمي أن الضمير راجع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ورجحه الطيبي وقواه ابن حجر بأن في رواية ابن خزيمة (ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم. والرجل: جبريل عليه السلام كما ورد في آخر الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم. «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» . (فقال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر، بكسر الخاء «واللقاء» يحصل بالانتقال إلى دار الجزاء، «والبعث» بعده عند قيام الساعة: وقيل: «اللقاء» ما يكون بعد البعث عند الحساب. ثم ليس المراد باللقاء رؤية الله تعالى: فإن أحدا لا يقطع لنفسه برؤية الله تعالى: لأن الرؤية مختصة بالمؤمنين ولا يدري الإنسان ماذا يختم له؟ وأما وصف البعث «بالآخر» فقيل: هو مبالغة في البيان والإيضاح؛ وذلك لشدة الاهتمام به. وقيل: سببه أن خروج الإنسان إلى الدنيا بعث من الأرحام، وخروجه من القبر للحشر بعث من الأرض، فقيد البعث «بالآخر» ، ليتميز. والله أعلم.

                                                                                                                              [ ص: 57 ] (قال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا ) (العبادة» هي الطاعة مع خضوع، والمراد هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيته، أو الطاعة مطلقا.

                                                                                                                              وكان الكفار يعبدونه سبحانه في الصورة، ويعبدون معه أيضا ما يزعمون أنها «شركاء» فنفي هذا «وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» إنما اقتصر على هذه الثلاث لكونها من أركان الإسلام وأظهر شعائره، والباقي ملحق بها.

                                                                                                                              وأما تقييد الصلاة «بالمكتوبة» فلقوله تعالى:

                                                                                                                              إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا .

                                                                                                                              وقد ورد في أحاديث كثيرة وصفها «بالمكتوبة» ، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» «وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل» ، «وخمس صلوات كتبهن الله» ، وأما تقييد الزكاة «بالمفروضة» ، وهي المقدرة فاحتراز من الزكاة المعجلة قبل الحول فإنها «زكاة» وليست مفروضة. وقيل: فرق بين الصلاة والزكاة في التقييد لكراهة تكرير اللفظ الواحد. وللاحتراز عن صدقة التطوع، فإنها زكاة لغوية.

                                                                                                                              «وإقامة الصلاة» هي إدامتها، والمحافظة عليها. قيل: وإتمامها على وجهها. قال أبو علي الفارسي: والأول أشبه. وفي الصحيح. «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعتدلوا في الصفوف فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة» .

                                                                                                                              [ ص: 58 ] ومعناه إقامتها المأمور بها في قوله تعالى: وأقيموا الصلاة .

                                                                                                                              وهذا يرجح القول الثاني.

                                                                                                                              وفي قوله «تصوم رمضان» حجة لمذهب الجماهير وهو المختار الصواب أنه لا كراهة في قول «رمضان» من غير تقييد «بالشهر» ، خلافا لمن كرهه. «قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك.

                                                                                                                              هذا من جوامع الكلم التي أوتيها: أنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين «ربه» سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها، إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله في جميع أحوالك، كعبادتك في حال العيان، فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للاطلاع عليه. وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه.

                                                                                                                              فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك.

                                                                                                                              قال النووي: وقد ندب أهل الحق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم. فكيف من لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته؟.

                                                                                                                              قال عياض: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات [ ص: 59 ] الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال؛ حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه. قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألفنا كتابنا الذي سميناه «بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان» ، إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة انتهى.

                                                                                                                              قلت: وحررت بيان «الإحسان» ومقاماته ومنازله للسائرين المحسنين في كتابي «رياض المرتاض وغياض العرباض» فراجعه. (قال: يا رسول الله ! متى الساعة؟ ) أي القيامة. سميت بها لكونها محتملة في كل ساعة.

                                                                                                                              (قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه.

                                                                                                                              قال النووي: وقد بسطت هذا بدلائله وشواهده وما يتعلق به في مقدمة «شرح المهذب» ، المشتملة على أنواع الخير لا بد لطالب العلم من معرفة مثلها و إدامة النظر فيه والله أعلم.

                                                                                                                              قلت: ويغني عن ذلك قوله سبحانه لا علم لنا إلا ما علمتنا وهذه حكاية عن الملائكة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقوله سبحانه وتعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم . وقوله تعالى وفوق كل ذي علم عليم . وعن عبد الله بن مسعود قال: «يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول [ ص: 60 ] لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:

                                                                                                                              قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين
                                                                                                                              .

                                                                                                                              وهذا الحديث متفق عليه.

                                                                                                                              (ولكن سأحدثك عن أشراطها ) بفتح الهمزة، واحدها «شرط» بفتح الشين والراء. وهي «العلامات» . وقيل مقدماتها؛ وقيل: صغار أمورها قبل تمامها. وكلها متقاربة وفي رواية أخرى من حديث عمر عند مسلم (فأخبرني عن أماراتها) والأمارة، والأمار، بإثبات الهاء وحذفها هي العلامة. (إذا ولدت الأمة ربتها) وفي رواية أخرى عنده عن عمر رضي الله عنه بلفظ «قال: أن تلد الأمة ربتها» وفي الأخرى «بعلها» يعني «السراري» ومعنى (ربها) «وربتها» سيدها ومالكها وسيدتها ومالكتها.

                                                                                                                              قال الأكثرون من أهل العلم: هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهن.

                                                                                                                              فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها. لأن مال الإنسان صائر إلى ولده. وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما مما يعلمه بقرينة الحال أو عرف الاستعمال.

                                                                                                                              وقيل: معناه أن «الإماء» يلدن الملوك فتكون «أمة» من جملة رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته. وهذا قول إبراهيم الحربي.

                                                                                                                              قلت: وقد وقع ذلك في الأمة الإسلامية منذ زمن قديم. وقل ما ترى الملوك والرؤساء والأمراء إلا وقد ولدتهم الإماء. وقيل معناه أنه تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان. فيكثر تردادها [ ص: 61 ] في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها ولا يدري.

                                                                                                                              قلت: والأول أشبه، والثالث قليل الوقوع والوجود. ولهذا قال النووي: ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد، فإنه متصور في غيرهن؛ فإن «الأمة» تلد «حرا» من غير سيدها بشبهة. أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا؛ ثم تباع «الأمة» في الصورتين بيعا صحيحا وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد انتهى.

                                                                                                                              قلت: وقد كثر السفاح، وفقد النكاح في الأمراء والرؤساء منذ مئين. وغالب أمهاتهن دخيلات في بيوتهم. وإماء على غير الصورة الشرعية وهم أولاد زنا ونعوذ بالله من فساد أحوال الناس.

                                                                                                                              قال النووي: وقيل في معناه غير ما ذكرنا، ولكنها أقوال ضعيفة جدا وفاسدة فتركتها، وأما «بعلها» فالصحيح في معناه أن «البعل» هو المالك أو السيد؛ فيكون معنى (ربها) قال أهل اللغة: «بعل الشيء» ربه ومالكه. وقال ابن عباس والمفسرون في قوله تعالى: أتدعون بعلا أي «ربا» ، وقيل: المراد «الزوج» ومعناه نحو ما تقدم أنه يكثر بيع «السراري» حتى يتزوج الإنسان أمه، وهو لا يدري؛ وهذا أيضا معنى صحيح إلا أن الأول أظهر، لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى. وليس في الحديث دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد ولا منع بيعهن.

                                                                                                                              وقد استدل به «إمامان» على ذلك: أحدهما على «الإباحة» والآخر على «المنع» وذلك من الغرابة بمكان. وقد أنكر عليهما هذا الاستدلال. فإنه [ ص: 62 ] ليس كل ما أخبر صلى الله عليه وسلم بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما؛ فإن تطاول «الرعاء» في البنيان، وفشو المال، وكون خمسين امرأة لهن «قيم واحد» ليس بحرام بلا شك، وإنما هذه علامات. و«العلامة» لا يشترط فيها شيء من ذلك. بل تكون بالخير والشر والمباح والمحرم والواجب وغيره انتهى.

                                                                                                                              وإطلاق «الرب والربة» على «ولد الأمة» مجاز. ولا يطلق غير مضاف إلا على الله إلا نادرا. والتخصيص بالأنثى إما لشيوع الجهل فيهن، أو للزوم الحكم في الذكر بالطريق الأولى، أو بتقدير موصوفها «نفسا أو نسمة» ، والله أعلم (فذاك من أشراطها ) أي: من علامات الساعة العظمى وأمارات القيامة الكبرى، (وإذا كانت الحفاة العراة رءوس الناس ) فذاك من أشراطها، وهذا واقع في الناس منذ مئين، وإنك لا ترى أحدا من رءوسهم إلا وهو حاف عار عن الشرف والعلم والفضل وأوصاف الرياسة والإمارة فضلا عن صفات «الإمامة والخلافة» ، وكلهم «لكع بن لكع» وقد شاهدنا ذلك وجربناه في هذا الزمان كثيرا فما وجدنا فيه إلا «حميرا» وكان أمر الله قدرا مقدورا. وفي رواية أخرى عند مسلم عن أبي هريرة بلفظ «وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم -ملوك الأرض- فذاك من أشراطها» .

                                                                                                                              قال النووي: المراد بهم «الجهلة السفلة الرعاع» ، كما قال تعالى صم بكم عمي أي: لما لم ينتفعوا بجوارحهم هذه فكأنهم عدموها.

                                                                                                                              هذا هو الصحيح في معنى الحديث والله أعلم. وزاد في رواية «العالة» [ ص: 63 ] وهم الفقراء، «والعائل» الفقير، «والعيلة» الفقر «وعال الرجل يعيل عيلة» ، أي: افتقر.

                                                                                                                              (وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها ) (الرعاء» بكسر الراء وبالمد. ويقال فيهم «رعاة» بضم الراء وزيادة الهاء بلا مد.

                                                                                                                              «والبهم» ، بفتح الباء وإسكان الهاء هي الصغار من أولاد الغنم الضأن والمعز جميعا. وقيل: أولاد الضأن خاصة، واقتصر عليه الجوهري في صحاحه. والواحدة «بهمة» . قال الجوهري: وهي تقع على المذكر والمؤنث «والسخال» وأولاد المعزى. قال: فإذا جمعت بينهما قلت: «بهام وبهم» أيضا.

                                                                                                                              وقيل: إن «البهم» يختص بأولاد المعز؛ وإليه أشار عياض بقوله: وقد يختص بالمعز. وفي رواية للبخاري «رعاء الإبل البهم» بضم الباء ؛ قال عياض: ورواه بعضهم بفتحها. ولا وجه له مع ذكر الإبل قال: ورويناه برفع الميم وجرها. فمن رفعه جعله صفة «للرعاء» أي: أنهم سود؛ وقيل: لا شيء لهم. وقال الخطابي: هو جمع «بهيم» وهو المجهول الذي لا يعرف من «أبهم الأمر» .

                                                                                                                              ومن جر الميم جعله «صفة» للإبل أي «السود» لرداءتها والله أعلم.

                                                                                                                              ومعناه: أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان والله أعلم.

                                                                                                                              وقد عمت البلوى بذلك في هذا الزمان بل من قبله بكثير ترى الشرفاء الفضلاء العلماء في ضيق، والسفلة الأراذل في سعة.

                                                                                                                              [ ص: 64 ] «في خمس» أي: علم الساعة داخل في خمس (لا يعلمهن إلا الله ثم تلا صلى الله عليه وسلم:

                                                                                                                              إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير .

                                                                                                                              ثم قال: أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا علي الرجل فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ) ، وفي رواية أخرى عند مسلم (عن عمر بن الخطاب) :

                                                                                                                              «ثم انطلق فلبث مليا ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» .

                                                                                                                              ومعنى «مليا» وقتا طويلا. وفي رواية أبي داود والترمذي «أنه قال ذلك بعد ثلاث» وفي «شرح السنة» للبغوي «بعد ثالثة» قال النووي: وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال. وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة يعني «هذا الحديث» فيحتمل الجمع بينهما أن عمر لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر بعد ثلاث إذ لم يكن حاضرا وقت إخبار الباقين انتهى.

                                                                                                                              قلت: ويحتمل ثلاث ساعات. فإنها يصح عليه قوله «مليا» .

                                                                                                                              [ ص: 65 ] وفي الحديث أن «الإيمان والإسلام والإحسان» يسمى كلها دينا.

                                                                                                                              وهذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف والآداب واللطائف؛ بل هو أصل الإسلام وأخويه، بل لا يخرج شيء من الدين من فحواه ومقتضاه، وفيه أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع، لقوله ما في رواية أخرى عنده عن أبي هريرة: «هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا» وفيه أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض، وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله والله أعلم. وحديث عمر في هذا الباب الذي أشرنا إليه متفق عليه.




                                                                                                                              الخدمات العلمية