الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      محمد بن أحمد بن عياض المفرض : سمعت حرملة يقول : كان الليث بن سعد يصل مالكا بمائة دينار في السنة ، فكتب مالك إليه : علي دين ، فبعث إليه بخمس مائة دينار ، فسمعت ابن وهب يقول : كتب مالك إلى الليث : إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها ، فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر ، فبعث إليه بثلاثين حملا عصفرا ، فباع منه بخمس مائة دينار ، وبقي عنده فضلة .

                                                                                      قال أبو داود : قال قتيبة : كان الليث يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة ، وقال : ما وجبت علي زكاة قط . وأعطى الليث ابن لهيعة ألف دينار ، [ ص: 149 ] وأعطى مالكا ألف دينار ، وأعطى منصور بن عمار الواعظ ألف دينار وجارية تسوى ثلاث مائة دينار .

                                                                                      قال : وجاءت امرأة إلى الليث ، فقالت : يا أبا الحارث ، إن ابنا لي عليل ، واشتهى عسلا ، فقال : يا غلام ، أعطها مرطا من عسل ، والمرط : عشرون ومائة رطل .

                                                                                      قال عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد : سمعت أبي يقول : ما وجبت علي زكاة منذ بلغت .

                                                                                      وقال أبو صالح : سألت امرأة الليث منا [ من ] عسل ، فأمر لها بزق ، وقال : سألت على قدرها ، وأعطيناها على قدر السعة علينا .

                                                                                      قال يعقوب بن شيبة : حدثني عبد الله بن إسحاق ، سمعت يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : جاءت امرأة بسكرجة إلى الليث تطلب عسلا ، فأمر من يحمل معها زقا ، فجعلت تأبى ، وجعل الليث يأبى إلا أن يحمل معها من عسل ، وقال : نعطيك على قدرنا . .

                                                                                      وعن الحارث بن مسكين ، قال : اشترى قوم من الليث ثمرة ، فاستغلوها ، فاستقالوه ، فأقالهم ، ثم دعا بخريطة فيها أكياس ، فأمر لهم بخمسين دينارا ، فقال له ابنه الحارث في ذلك . فقال : اللهم غفرا ، إنهم قد كانوا أملوا فيها أملا ، فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا . [ ص: 150 ] أحمد بن عثمان النسائي : سمعت قتيبة ، سمعت شعيب بن الليث يقول : خرجت حاجا مع أبي ، فقدم المدينة ، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب ، قال : فجعل على الطبق ألف دينار ، ورده إليه .

                                                                                      إسماعيل سمويه : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : صحبت الليث عشرين سنة ، لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس . كان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض .

                                                                                      محمد بن أحمد بن عياض المفرض : حدثنا إسماعيل بن عمرو الغافقي ، سمعت أشهب بن عبد العزيز يقول : كان الليث له كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها : أما أولها ، فيجلس لنائبة السلطان في نوائبه وحوائجه ، وكان الليث يغشاه السلطان ، فإذا أنكر من القاضي أمرا ، أو من السلطان ، كتب إلى أمير المؤمنين ، فيأتيه العزل ، ويجلس لأصحاب الحديث ، وكان يقول : نجحوا أصحاب الحوانيت ، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم . ويجلس للمسائل ، يغشاه الناس ، فيسألونه ، ويجلس لحوائج الناس ، لا يسأله أحد فيرده ، كبرت حاجته أو صغرت . وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر ، وفي الصيف سويق اللوز في السكر .

                                                                                      وبه إلى الخطيب أبي بكر : أخبرنا البرقاني ، أخبرنا أبو إسحاق المزكي ، أخبرنا السراج : سمعت قتيبة يقول : قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية ، وكان معه ثلاث سفائن : سفينة فيها مطبخه ، وسفينة فيها عائلته ، وسفينة فيها أضيافه . وكان إذا حضرت الصلاة يخرج إلى الشط فيصلي . وكان ابنه شعيب إمامه ، فخرجنا لصلاة المغرب ، فقال : أين [ ص: 151 ] شعيب ؟ ، فقالوا : حم ، فقام الليث ، فأذن وأقام ، ثم تقدم ، فقرأ والشمس وضحاها فقرأ : " فلا يخاف عقباها " . وكذلك في مصاحف أهل المدينة يقولون : هو غلط من الكاتب عند أهل العراق ، ويجهر : ببسم الله الرحمن الرحيم . ويسلم تلقاء وجهه .

                                                                                      الفسوي : قال ابن بكير : سمعت الليث كثيرا يقول : أنا أكبر من ابن لهيعة ، فالحمد لله الذي متعنا بعقلنا .

                                                                                      ثم قال ابن بكير : حدثني شعيب بن الليث ، عن أبيه قال : لما ودعت أبا جعفر ببيت المقدس قال : أعجبني ما رأيت من شدة عقلك ، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك . قال شعيب : كان أبي يقول : لا تخبروا بهذا ما دمت حيا .

                                                                                      قال قتيبة : كان الليث أكبر من ابن لهيعة بثلاث سنين ، وإذا نظرت تقول : ذا ابن ، وذا أب ، يعني ابن لهيعة الأب .

                                                                                      قال : ولما احترقت كتب ابن لهيعة ، بعث إليه الليث من الغد بألف دينار .

                                                                                      قال محمد بن صالح الأشج : سئل قتيبة : من أخرج لكم هذه [ ص: 152 ] الأحاديث من عند الليث ؟ فقال : شيخ كان يقال له : زيد بن الحباب . وقدم منصور بن عمار على الليث ، فوصله بألف دينار . واحترقت دار ابن لهيعة ، فوصله بألف دينار ، ووصل مالكا بألف دينار ، وكساني قميص سندس ، فهو عندي . رواها صالح بن أحمد الهمذاني ، عن محمد بن علي بن الحسين الصيدناني ، سمعت الأشج .

                                                                                      أحمد بن عثمان النسائي : سمعت قتيبة ، سمعت شعيبا يقول : يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفا ، تأتي عليه السنة وعليه دين .

                                                                                      وبه إلى الخطيب : أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن جعفر ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرملي ، سمعت محمد بن رمح يقول : كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار ، ما أوجب الله عليه زكاة درهم قط . قلت : ما مضى في دخله أصح .

                                                                                      أحمد بن محمد بن نجدة التنوخي : سمعت محمد بن رمح يقول : حدثني سعيد الآدم ، قال : مررت بالليث بن سعد فتنحنح لي ، فرجعت إليه ، فقال لي : يا سعيد ، خذ هذا القنداق فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ، ممن لا بضاعة له ولا غلة . فقلت : جزاك الله خيرا يا أبا [ ص: 153 ] الحارث . وأخذت منه القنداق ثم صرت إلى المنزل ، فلما صليت أوقدت السراج وكتبت : بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قلت : فلان بن فلان . ثم بدرتني نفسي . فقلت : فلان بن فلان . قال : فبينا أنا على ذلك إذ أتاني آت ، فقال : ها الله يا سعيد ، تأتي إلى قوم عاملوا الله سرا ، فتكشفهم لآدمي ؟! مات الليث ، ومات شعيب ، أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه ؟ فقمت ولم أكتب شيئا ، فلما أصبحت ، أتيت الليث ، فتهلل وجهه ، فناولته القنداق فنشره ، فما رأى فيه غير : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال : ما الخبر ؟ فأخبرته بصدق عما كان ، فصاح صيحة ، فاجتمع عليه الناس من الحلق ، فسألوه فقال : ليس إلا خير ، ثم أقبل علي ، فقال : يا سعيد ، تبينتها وحرمتها ، صدقت . مات الليث أليس مرجعهم إلى الله .

                                                                                      قال مقدام بن داود : رأيت سعيدا الآدم ، وكان يقال : إنه من الأبدال .

                                                                                      قال أبو صالح : كان الليث يقرأ بالعراق من فوق علية على أصحاب الحديث ، والكتاب بيدي ، فإذا فرغ رميت به إليهم ، فنسخوه .

                                                                                      روى عبد الملك بن شعيب ، عن أبيه ، قال : قيل لليث : أمتع الله بك ، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك ، فقال : أوكل ما في صدري في كتبي ؟ لو كتبت ما في صدري ، ما وسعه هذا المركب . رواها الحافظ بن يونس ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن عبد الملك ، عن أبيه . [ ص: 154 ] يحيى بن بكير : قال الليث : كنت بالمدينة مع الحجاج وهي كثيرة السرقين ، فكنت ألبس خفين ، فإذا بلغت باب المسجد ، نزعت أحدهما ، ودخلت . فقال يحيى بن سعيد الأنصاري : لا تفعل هذا ، فإنك إمام منظور إليك - يريد لبس خف على خف .

                                                                                      الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول : ما في هؤلاء المصريين - أثبت من الليث ، لا عمرو بن الحارث ولا أحد ، وقد كان عمرو بن الحارث عندي ، ثم رأيت له أشياء مناكير ، ما أصح حديث ليث بن سعد ، وجعل يثني عليه ، فقال رجل لأبي عبد الله : إن إنسانا ضعفه . فقال : لا يدري . وقال الفضل بن زياد : قال أحمد : ليث كثير العلم ، صحيح الحديث .

                                                                                      وقال أحمد بن سعد الزهري : سمعت أحمد بن حنبل يقول : الليث ثقة ثبت .

                                                                                      وقال أبو داود : سمعت أحمد يقول : ليس في المصريين أصح حديثا من الليث بن سعد ، وعمرو بن الحارث يقاربه . وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : أصح الناس حديثا عن سعيد المقبري ليث بن سعد ، يفصل ما روى عن أبي هريرة ، وما عن أبيه عن أبي هريرة . هو ثبت في حديثه جدا .

                                                                                      وقال حنبل : سئل أحمد : ابن أبي ذئب أحب إليك عن المقبري أو [ ص: 155 ] ابن عجلان ؟ قال : ابن عجلان اختلط عليه سماعه من سماع أبيه ، الليث أحب إلي منهم في المقبري .

                                                                                      وقال عثمان الدارمي : سمعت يحيى بن معين يقول : الليث أحب إلي من يحيى بن أيوب ، ويحيى ثقة . قلت : فكيف حديثه عن نافع ؟ فقال : صالح ، ثقة .

                                                                                      وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم : قال ابن معين : الليث عندي أرفع من ابن إسحاق . قلت : فالليث أو مالك ؟ قال : مالك .

                                                                                      وعن أحمد بن صالح - وذكر الليث - فقال : إمام قد أوجب الله علينا حقه ، لم يكن بالبلد بعد عمرو بن الحارث مثله .

                                                                                      وقال سهل بن أحمد الواسطي : سمعت الفلاس يقول : ليث بن سعد صدوق ، سمعت ابن مهدي يحدث عن ابن المبارك ، عنه .

                                                                                      قال ابن سعد : استقل الليث بالفتوى ، وكان ثقة ، كثير الحديث ، سريا من الرجال ، سخيا ، له ضيافة .

                                                                                      وقال يعقوب بن شيبة : في حديثه عن الزهري بعض الاضطراب .

                                                                                      عن الليث قال : ارتحلت إلى الإسكندرية إلى الأعرج ، فوجدته قد مات ، فصليت عليه . وقال العجلي والنسائي : الليث ثقة . وقال ابن خراش : صدوق صحيح الحديث . [ ص: 156 ]

                                                                                      عباس الدوري : حدثنا يحيى بن معين ، قال : هذه رسالة مالك إلى الليث ، حدثنا بها عبد الله بن صالح يقول فيها : وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك ، وحاجة من قبلك إليك ، واعتمادهم على ما جاءهم منك .

                                                                                      أحمد بن عبد الرحمن بن وهب : سمعت الشافعي يقول : الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به .

                                                                                      وقال أبو زرعة الرازي : سمعت يحيى بن بكير يقول : الليث أفقه من مالك ، ولكن الحظوة لمالك - رحمه الله . وقال حرملة : سمعت الشافعي يقول : الليث أتبع للأثر من مالك . وقال علي بن المديني : الليث ثبت . وقال أبو حاتم : هو أحب إلي من مفضل بن فضالة .

                                                                                      وقال أبو داود : حدثني محمد بن الحسين : سمعت أحمد يقول : الليث ثقة ولكن في أخذه سهولة .

                                                                                      قال يحيى بن بكير : قال الليث : قال لي المنصور : تلي لي مصر ؟ فاستعفيت . قال : أما إذ أبيت فدلني على رجل أقلده مصر . قلت : عثمان بن الحكم الجذامي رجل له صلاح ، وله عشيرة . قال : فبلغ عثمان ذلك ، فعاهد الله ألا يكلم الليث . [ ص: 157 ]

                                                                                      قال : وولي لهم الليث ثلاث ولايات لصالح بن علي . قال صالح لعمرو بن الحارث : لا أدع الليث حتى يتولى لي . فقال عمرو : لا يفعل . فقال : لأضربن عنقه ، فجاءه عمرو فحذره ، فولي ديوان العطاء ، وولي الجزيرة أيام أبي جعفر ، وولي الديوان أيام المهدي .

                                                                                      قال أبو عمرو أحمد بن محمد الحيري : سمعت محمد بن معاوية ، يقول - وسليمان بن حرب إلى جنبه - : خرج الليث بن سعد يوما ، فقوموا ثيابه ، ودابته ، وخاتمه ، وما عليه ، ثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألفا . فقال سليمان : لكن خرج علينا شعبة يوما ، فقوموا حماره وسرجه ، ولجامه ، ثمانية عشر درهما إلى عشرين درهما .

                                                                                      عن أبي صالح كاتب الليث ، قال : كنا على باب مالك ، فامتنع عن الحديث ، فقلت : ما يشبه هذا صاحبنا ؟ قال : فسمعها مالك ، فأدخلنا ، وقال : من صاحبكم ؟ قلت : الليث ، قال : تشبهونا برجل كتبت إليه في قليل عصفر ، نصبغ به ثياب صبياننا ، فأنفذ منه ما بعنا فضلته بألف دينار !

                                                                                      قال عبد الملك بن شعيب بن الليث : سمعت أسد بن موسى يقول : كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية ، فيقتلهم ، قال : فدخلت مصر في هيئة [ ص: 158 ] رثة ، فأتيت الليث ، فلما فرغت من المجلس ، تبعني خادم له بمائة دينار ، وكان في حزتي هميان فيه ألف دينار ، فأخرجتها ، فقلت : أنا في غنى ، استأذن لي على الشيخ ، فاستأذن ، فدخلت ، وأخبرته بنسبي واعتذرت من الرد ، فقال : هي صلة . قلت : أكره أن أعود نفسي . قال : ادفعها إلى من ترى من أصحاب الحديث .

                                                                                      قال قتيبة : كان الليث يركب في جميع الصلوات إلى الجامع ، ويتصدق كل يوم على ثلاث مائة مسكين .

                                                                                      سليم بن منصور بن عمار : حدثنا أبي قال : دخلت على الليث خلوة ، فأخرج من تحته كيسا فيه ألف دينار ، وقال : يا أبا السري ، لا تعلم بها ابني ، فتهون عليه .

                                                                                      أبو صالح ، عن الليث ، قال لي الرشيد : ما صلاح بلدكم ؟ قلت : بإجراء النيل ، وبصلاح أميرها ، ومن رأس العين يأتي الكدر ، فإن صفت العين ، صفت السواقي . قال : صدقت .

                                                                                      وعن ابن وزير قال : قد ولي الليث الجزيرة ، وكان أمراء مصر لا يقطعون أمرا إلا بمشورته . فقال أبو المسعد ، ووصلها إلى المنصور :

                                                                                      لعبد الله عبد الله عندي نصائح حكتها في السر وحدي     أمير المؤمنين تلاف مصرا
                                                                                      فإن أميرها ليث بن سعد

                                                                                      [ ص: 159 ]

                                                                                      قال بكر بن مضر : قدم علينا كتاب مروان بن محمد إلى حوثرة والي مصر : إني قد بعثت إليكم أعرابيا بدويا فصيحا من حاله ، ومن حاله ، فاجمعوا له رجلا يسدده في القضاء ، ويصوبه في المنطق . فأجمع رأي الناس على الليث بن سعد ، وفي الناس معلماه : يزيد بن أبي حبيب ، وعمرو بن الحارث .

                                                                                      قال أحمد بن صالح : أعضلت الرشيد مسألة فجمع لها فقهاء الأرض ، حتى أشخص الليث ، فأخرجه منها .

                                                                                      قال سعيد بن أبي مريم : حدثنا الليث قال : قدمت مكة ، فجئت أبا الزبير ، فدفع إلي كتابين ، فانقلبت بهما ، ثم قلت : لو عاودته ، فسألته : أسمعت هذا كله من جابر بن عبد الله ؟ فقال : منه ما سمعته ، ومنه ما حدثت به . فقلت له : علم لي على ما سمعت ، فعلم لي على هذا الذي عندي .

                                                                                      قلت : قد روى الليث إسنادا عاليا في زمانه ، فعنده عن عطاء عن عائشة ، وعن ابن أبي مليكة عن ابن عباس ، وعن نافع عن ابن عمر ، وعن المقبري عن أبي هريرة . وهذا النمط أعلى ما يوجد في زمانه . ثم تراه ينزل في أحاديث ، ولا يبالي لسعة علمه ، فقد روى أحاديث عن الهقل بن زياد ، [ ص: 160 ] وهو أصغر منه بكثير ، عن الأوزاعي ، عن داود بن عطاء ، عن موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر .

                                                                                      وقال عبد الله بن صالح : حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى . . . الحديث .

                                                                                      وقال أبو صالح : حدثنا الليث ، حدثني خالد بن يزيد ، عن سعيد ، عن ابن عجلان ، عن أبي الزبير ، أخبره أنه رأى ابن عمر إذا سجد ، فرفع رأسه من السجدة الأولى ، قعد على أطراف أصابعه ويقول : إنه من السنة . لم يروه إلا الليث ، تفرد به عنه أبو صالح .

                                                                                      جماعة قالوا : حدثنا الليث ، عن ابن الهاد ، عن عبد الوهاب بن أبي بكر ، عن عبد الله بن مسلم ، عن ابن شهاب ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكوثر فقال : " نهر أعطانيه ربي ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وفيه طير كأعناق الجزر " فقال عمر : يا رسول الله ، إن تلك الطير ناعمة ! قال : آكلها أنعم منها يا عمر . [ ص: 161 ]

                                                                                      سمعه ابن بكير ومنصور بن سلمة ، ويونس بن محمد منه ، وعبد الله هو أخو الزهري .

                                                                                      قال عبد الله بن عبد الحكم : كنا في مجلس الليث ، فذكر العدس ، فقال مسلمة بن علي : بارك فيه سبعون نبيا ، فقضى الليث صلاته وقال : ولا نبي واحد ، إنه بارد مؤذ .

                                                                                      قال عبد العزيز الدراوردي : لقد رأيت الليث ، وإن ربيعة ويحيى بن سعيد ليتزحزحون له زحزحة . قال سعيد الآدم : قال العلاء بن كثير : الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا .

                                                                                      قال ابن سعد : كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه .

                                                                                      قال يحيى بن بكير ، وسعيد بن أبي مريم : مات الليث للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومائة ، قال يحيى : يوم الجمعة ، وصلى عليه [ ص: 162 ] موسى بن عيسى . وقال سعيد : مات ليلة الجمعة .

                                                                                      قال خالد بن عبد السلام الصدفي : شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي ، فما رأيت جنازة قط أعظم منها ، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن ، وهم يعزي بعضهم بعضا ، ويبكون ، فقلت : يا أبت ، كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة ، فقال : يا بني ، لا ترى مثله أبدا .

                                                                                      قال أبو بكر الخلال الفقيه : أخبرني أحمد بن محمد بن واصل المقرئ ، حدثنا الهيثم بن خارجة ، أخبرنا الوليد بن مسلم ، قال : سألت مالكا ، والثوري ، والليث والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات . فقالوا : أمروها كما جاءت .

                                                                                      وقال أبو عبيد : ما أدركنا أحدا يفسر هذه الأحاديث ، ونحن لا نفسرها .

                                                                                      قلت : قد صنف أبو عبيد كتاب " غريب الحديث " وما تعرض لأخبار الصفات الإلهية بتأويل أبدا ، ولا فسر منها شيئا . وقد أخبر بأنه ما لحق أحدا يفسرها ، فلو كان والله تفسيرها سائغا ، أو حتما ، لأوشك أن يكون اهتمامهم بذلك فوق اهتمامهم بأحاديث الفروع والآداب . فلما لم يتعرضوا لها بتأويل ، وأقروها على ما وردت عليه ، علم أن ذلك هو الحق الذي لا حيدة عنه . وقد روى الليث عمن هو في طبقته ، بل أصغر : روى عن سعيد بن بشير ، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، وشعيب [ ص: 163 ] بن إسحاق الدمشقي ، وعبد العزيز بن الماجشون . وأبي معشر ، وهشام بن سعد ، وروى عن رجل ، عن إبراهيم بن سعد ، وإبراهيم أصغر منه ، وقد روى عن كاتبه أبي صالح حديثا واحدا . فهذا ما انتهى إلينا من ترجمة الليث موجزا - رحمه الله - والحمد لله وحده .

                                                                                      [ ص: 164 ]

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية